التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ كَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۭ بَيِّنَةٖۗ وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (211)

ثم بين - سبحانه - أن كفر الكافرين ليس سببه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين ، وإنما سببه الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى ، بدليل أن بني إسرائيل قد آتاهم الله آيات ببينات تهدي إلى الإِيمان ومع ذلك كفروا بها . استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين في الآية السابقة فيقول : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ . . . } .

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها ؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله - تعالى - إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله - تعالى - .

أي : سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله - تعالى - ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه . والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم . . . " .

و { سَلْ } فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت . ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضاً .

و { كَمْ } إما خبرية والمسئول عنه محذوف ، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع والتوبيخ . كأنه قيل { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها .

وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني لقوله { سَلْ } وقيل : في موضع المصدر ، أي : سلهم هذا السؤال . وقيل : في موضع الحال . أي : سلهم قائلا : كم آتيناهم .

والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإِقرار - بأنه قد خالف ما تقتضيه الآيات من الإِيمان بالله - تعالى - .

فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد فيقول لمن حضره : سله كم أنعمت عليه ؟

ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أظهرها الله - تعالى - لبني إسرائيل على أيدي أنبيائهم ليؤمنوا بهم : عصا موسى التي ألقاها فإذا هي حية تسعى ؛ والتي ألقاها فإذا هي تلقف ما صنعه السحرة ، والتي ضرب بها البحر { فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وصدق من جرت على يديه سهذه الخوارق ، ومع ذلك فمنهم من قال لموسى { أَرِنَا الله جَهْرَةً } ومنهم من كفر وعبد العجل . .

ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الجاحدين لآياته فقال : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .

التبديل : جعل شيء بدلا عن الآخر ، ونعمة الله هنا تتناول آياته الدالة على صدق رسله ، كما يتناول ما أسبغه الله على عباده من صحة ومال وعقل وغير ذلك من نعمه الظاهرة والباطنة .

أي : ومن يبدل نعم الله بعد ما وصلت إليه واتضحت له ، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإِيمان ، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقاباً شديداً .

وقوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } زيادة توبيخ لهم ، وأنهم مستحقون لأشد ألوان العذاب ، لأنهم قد كفروا بآيات الله وجحدوا نعمه بعد معرفتها والوقوف على تفاصيلها . فهو كقوله - تعالى - : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهو تبديل عن معرفة لا عن جهل أو خطأ .

وقوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تعليل للجواب أقيم مقامه .

أي : ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب فلا يفلت منه أحد . ويحتمل أن يكون هذه الجملة هي الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له .

والعقاب هو الجزاء عن جناية وجرم ، وهو مأخوذ - كما يقول القرطبي - من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمحازاة للجاني في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب - أي الموضع الذي يركب منه - ، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقبه بذنبه .

فالآية الكريمة وعيد شديد لكل من يبدل نعم الله ، ويترك شكرها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ كَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۭ بَيِّنَةٖۗ وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (211)

204

هنا يلتفت السياق لفتة أخرى . فيخاطب النبي [ ص ] يكلفه أن يسأل بني إسرائيل - وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل - : كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا ! وكيف بدلوا نعمة الله ، نعمة الإيمان والسلم ، من بعد ما جاءتهم :

( سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة ، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) . .

والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية ، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء ! موقف التلكؤ دون الاستجابة ؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة ؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق ، ثم الاستمرار في العناد والجحود . . وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها ، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة .

( سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة ) . .

والسؤال هنا قد لا يكون مقصورا على حقيقته . إنما هو أسلوب من أساليب البيان ، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل ، والخوارق التي أجراها لهم . . إما بسؤال منهم وتعنت ، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة . . ثم ما كان منهم - على الرغم من كثرة الخوارق - من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان .

ثم يجيء التعقيب عاما :

( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) . .

ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم . أو نعمة الإيمان . فهما مترادفان . والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل ، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار ، منذ أن بدلوا نعمة الله ، وأبوا الطاعة الراضية ، والاستسلام لتوجيه الله . وكانوا دائما في موقف الشاك المتردد ، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة ؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة ، ولا يطمئن لنور الله وهداه ، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل ، ويجد مصداقه أخيرا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان .

وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة . وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد ؛ وتجد الشقوة النكدة ؛ وتعاني القلق والحيرة ؛ ويأكل بعضها بعضا ؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه ، ويطارها وتطارده بالأشباح المطلقة ، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات ، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح !

ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها : من مائلة برأسها ، إلى كاشفة عن صدرها ، إلى رافعة ذيلها ، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان ! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل ! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب !

ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة ، وأغانيهم المحمومة ، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح . .

ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل ، لا بل بين الصباح والمساء !

كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام . ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها ، وعن حالة " الهروب " من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة ، كالذي تطارده الجنة والأشباح .

وإن هو إلا عقاب الله ، لمن يحيد عن منهجه ، ولا يستمع لدعوته : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) . .

وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده ، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب . . والعياذ بالله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَلۡ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ كَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۭ بَيِّنَةٖۗ وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (211)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 211 )

وقوله تعالى : { سل بني إسرائيل } الآية ، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته( {[1962]} ) ، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة . وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه «اسأل » على الأصل( {[1963]} ) ، وقرأ قوم «اسل » على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر( {[1964]} ) ، ومن قرأ «سل » فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها .

و { كم } في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها( {[1965]} ) لأن لها صدر الكلام ، تقديره كم آتينا ( آتيناهم ) ، وإما ب { آتيناهم } . وقوله : { من آية } هو على التقدير الأول مفعول ثان ل { آتيناهم } ، وعلى الثاني في موضع التمييز . ويصح أن تكون { كم } في موضع رفع بالابتداء والخبر في { آتيناهم } . ويصير فيه عائد على { كم } تقديره كم آتيناهموه ، والمراد بالآية : كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه ، و { نعمة الله } لفظ عام لجميع أنعامه( {[1966]} ) ، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله ، ثم جاء اللفظ منسحباً على كل مبدل نعمة لله تعالى .

وقال الطبري : «النعمة هنا الإسلام » ، وهذا قريب من الأول( {[1967]} ) ، ويدخل في اللفظ أيضاً كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم ، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفراً ، والتوراة أيضاً نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم ، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { فإن الله شديد العقاب } خبر يقتضي ويتضمن الوعيد ، و { العقاب } مأخوذ من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر( {[1968]} ) .


[1962]:- أي جواز السؤال للإنكار، لا للتعلم كما يؤخذ من الآية.
[1963]:- هكذا في النسخ التي بأيدينا، وقرأ ابن عباس في رواية أبي عمرو عنه: اسأل على الأصل، تأمل، والله أعلم.
[1964]:- قال في "النهاية" في حديث: نهى صلى الله عليه وسلم عن (الغُلوطات)، وفي رواية (الأغلوطات) قال الهروي: (الغُلوطات) تركت منها الهمزة كما تقول: جاء الأحمر وجاء (الحَمْرَ) يطرح الهمزة.
[1965]:- وهذا الفعل يفسره ما بعده، وهذا من باب الاشتغال، وقد اعترضه إمام العربية (ح) بما يعلم بالوقوف عليه، كما اعترض أن تكون في موضع رفع الابتداء والعائِد محذوف، إذ لا يجوز ذلك في مثل هذا إلا في الضرورة، أو على وجه من الضعف. (كمْ) استفهامية، والمراد الاستفهام التقريري لأن السؤال عن معلوم لا عن مجهول، والله أعلم.
[1966]:- ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل أو كونهم السبب في نزولها، لِما تقرر من أنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
[1967]:- وهو أن نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم، وتبديلها تغيير صفته في كتبهم.
[1968]:- العُقْبة: النوبة في الركوب، وعُقْبة القِدءر شيء من المرق يردّه مستعير القِدر فيها إذا أعادها.