ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من ألوان ضراعتهم يدل على قوة إيمانهم فقال - تعالى - { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } .
أى أنهم يقولون على سبيل الضراعة والخضوع لله رب العالمين : يا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى أى داعياً يدعو إلى الإيمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فاستجبنا لدعوته ، وآمنا بما دعانا إليه بدون تردد أو تسويف .
وفى وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادى ، دلالة على كمال اعتنائه بشأن دعوته التى يدعو إليها ، وأنه حريض على تبليغها للناس تبليغا تاما .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فأى فائدة فى الجمع بين " المنادى " و { يُنَادِي } ؟ قلت : ذكر النداء مطلقا ، ثم مقيداً بالإيمان ، تفخيما لشأن المنادى ؛ لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدى للإسلام . وذلك أن النمادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحر ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادى قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك .
فإذا قلت : ينادى للإيمان . ويهدى للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادى والهادى وفخمته .
و " أن " فى قوله { أَنْ آمِنُواْ } تفسيرية لما فى فعل { يُنَادِي } من معنى القول دون حروفه ، وجىء بفاء التعقيب فى قوله - تعالى - حكاية عنهم { فَآمَنَّا } ؛ للدلالة على المبادرة والسبق ، إلى الإيمان ، وأنهم قد أقبلوا على الداعى لى الله بسرعة وامتثال ، وفى ذلك دلالة على سلامة فطرتهم ، وبعدهم عن المكابرة والعناد .
ثم حكى - سبحانه - مطلبهم فقال : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } .
أى نسألك يا ربنا بعد أن آمنا بنبيك ، واستجبنا للحق الذى جاء به ، أن تغفر لنا ذنوبنا بأن تسترها وتعفو عنها ، وأن تكفر عنا سيئاتنا بأن تزيلها وتمحوها وتحولها إلى حسنات أو بأن تحشرنا مع الأبرار أى مع عبادك الصالحين المستقيمين الأخيار . إذ الأبرار جمع بار وهو الشخص الكثير الطاعة لخالقه - تعالى - .
فأنت تراهم قد طلبوا من خالقهم ثلاثة أمور ، غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار الأخيار ، وهى مطالب تدل على قوة إيمانهم ، وصفاى نفوسهم ، وزهدهم فى متع الحياة الدنيا .
وقد جمعوا فى طلبهم بين غفران الذنوب وتكفير السيئات ، لأن السيئة عصيان فيه إساءة ، والذنب عصيان فيه تقصير وتباطؤ عن فعل الخير ، والغفران والتكفير كلاهما فيه معنى التسر والتغطية ، إلا أن الغفران يضتمن معنى عدم العقاب ، والتكفير يتضمن ذهاب أثر السيئة .
ومعنى وفاتهم مع الأبرار : أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات ، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم ، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تاما .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل :
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) . .
فهي قلوب مفتوحة ؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة ، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها ، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها ، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية ، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان ، مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون : { ربنا } قال أبو الدرداء : يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون : «ربنا ربنا » حتى استجيب لهم{[3797]} ، واختلف المتأولون في المنادي ، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما : المنادي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال محمد بن كعب القرظي : المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه ، ولما كانت { ينادي } بمنزلة يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان » ، وقوله : { أن آمنوا } «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر ، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله ، و { الأبرار } جمع بر ، أصله برر على وزن فعل ، أدغمت الراء في الراء ، وقيل : هو جمع بار كصاحب وأصحاب ، والمعنى : توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.