ثم عادت السورة الكريمة إلى حكاية أقوال هؤلاء المنافقين ، وإلى الرد عليها ، فقال - تعالى - : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ . . } .
والمراد بالمخلفين هنا : السابقون الذين وصفوا بأنهم من الأعراب ، فاللام للعهد .
أى : سيقول المخلفون عن الخروج معك يا محمد إلى مكة بعد أن خاب ظنهم فرجعتم سالمين إليهم بعد صلح الحديبية ، سيقولون لك ولأصحابك : { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } أى : اتركونا لنسير معكم ، لنشارككم فى جمع الغنائم التى تنالونها من أعدائكم .
فقوله { ذَرُونَا } بمعنى اتركونا ودعونا .
قال الآلوسى : والمراد بالمغانم هنا : مغانم خيبر - كما عليه عامة المفسرين - ولم نقف على خلاف فى ذلك ، وأيد بأن السين تدل على القرب ، وخيبر أقرب المغانم التى انطلقوا إليها من الحديبية - كما علمت - فإرادتها كالمتعينة ، وقد جاء فى الأخبار الصحيحة أن الله - تعالى - وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر ، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا .
وقد كان رجوع النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من صلح الحديبية فى ذى الحجة من السنة السادسة ، وخروجهم إلى خيبر كان فى المحرم من السنة السابعة ، وقد أصاب المسلمون من خيبر غنائم كثيرة ، وقد جعلها - صلى الله عليه وسلم - لمن شهد معه صلح الحديبية دون غيرهم .
وقوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله } أى : يريد هؤلاء المخلفون بقولهم { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } أن يغيروا حكم الله - تعالى - الذى حكم به ، وهو أن غنائم خيبر خاصة لمن شهد صلح الحديبية ، أما هؤلاء المخلفون فلا نصيب لهم فيها .
ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - الرد الذى يخرسهم فقال : { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ . . } أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المخلفين - على سبيل الإِقناط والتيئيس والزجر - لا تتبعونا ونحن متجهون إلى خيبر لفتحها . فالنفى فى قوله { لَّن تَتَّبِعُونَا } بمعنى النهى للمبالغة فى منعهم من الخروج مع المؤمنين إلى خيبر .
وقوله : { كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ } أى : مثل هذا النهى الصادر منى قد قاله الله - تعالى - من قبل رجوعنا من الحديبية ، فقد أمرنى بمنعكم من الخروج معى إلى خيبر ، وبحرمانكم من غنائمها ، عقابا لكم على معصيتكم لى ، وعلى سوء ظنكم بى وبأصحابى . .
ثم حكى - سبحانه - ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد مجابهتهم بتلك الحقيقة فقال : { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : فيسيقولون لك - أيها الرسول الكريم - بعد منعك إياهم من الخروج معكم إلى خيبير ، وبعد أن ذكرت لهم حكم الله فيهم . . سيقولون لك على سبيل السفاعة وسوء الأدب : أنتم أيها المؤمنون تريدون بسبب هذا المنع من الخروج معكم إلى خيبر ، أن تحسدوننا وتمنعوننا حقنا فى الغنيمة ، والله - تعالى - لم يأمركم بمنعنا ، وإنما أنتم الذين فعلتموه حسدا لنا .
وقوله : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } إضراب عن قولهم هذا على سبيل التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - أى ليس الحق كما زعموا ، بل الحق أنهم قوم دأبهم الحمق والجهالة ، ولا يفقهون من أمور الدين إلا فقها قليلا ، لا يسمن ولا يغنى من جوع .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين حرفى الإِضراب ؟ قلت : الأول إضراب معناه : رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثانى : إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين ، إلى وصفهم بما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه . .
ثم يلوح ببعض ما قدر الله للمؤمنين ، مخالفا لظن المخلفين . بأسلوب يوحي بأنه قريب :
( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم . يريدون أن يبدلوا كلام الله . قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) . .
أغلب المفسرين يرون أنها إشارة إلى فتح خيبر . وقد يكون هذا . ولكن النص يظل له إيحاؤه ولو لم يكن نصا في خيبر . فهو يوحي بأن المسلمين سيفتح عليهم فتح قريب يسير . وأن هؤلاء المخلفين سيدركون هذا ، فيقولون : ( ذرونا نتبعكم ) . .
ولعل الذي جعل المفسرين يخصصون خيبر ، أنها كانت بعد قليل من صلح الحديبية . إذ كانت في المحرم من سنة سبع . بعد أقل من شهرين من صلح الحديبية . وأنها كانت وافرة الغنائم . وكانت حصون خيبر آخر ما بقي لليهود في الجزيرة من مراكز قوية غنية . وكان قد لجأ إليها بعض بني النضير وبني قريظة ممن أجلوا عن الجزيرة من قبل .
وتتواتر أقوال المفسرين أن الله وعد أصحاب البيعة في الحديبية أن تكون مغانم خيبر لهم لا يشركهم فيها أحد . ولم أجد في هذا نصا . ولعلهم يأخذون هذا مما وقع فعلا . فقد جعلها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أصحاب الحديبية ، ولم يأخذ معه أحدا غيرهم .
وعلى أية حال فقد أمر الله نبيه أن يرد المخلفين من الأعراب إذا عرضوا الخروج للغنائم الميسرة القريبة . وقرر أن خروجهم مخالف لأمر الله وأخبر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم سيقولون إذا منعوا من الخروج : ( بل تحسدوننا ) . . فتمنعوننا من الخروج لتحرمونا من الغنيمة . ثم قرر أن قولهم هذا ناشيء عن قلة فقههم لحكمة الله وتقديره . فجزاء المتخلفين الطامعين أن يحرموا ، وجزاء الطائعين المتجردين أن يعطوا من فضل الله ، وأن يختصوا بالمغنم حين يقدره الله ، جزاء اختصاصهم بالطاعة والإقدام ، يوم كانوا لا يتوقعون إلا الشدة في الجهاد .
ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك .
وقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } معناه : يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر . وقال عبد الله بن زيد بن أسلم { كلام الله } قوله تعالى : { فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً }{[10416]} [ التوبة : 83 ] وهذا قول ضعيف ، لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، وهذا في آخر عمره ، وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية ، وأيضاً فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب ، الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر : { لن تتبعونا } وخص الله بها أهل الحديبية .
وقوله تعالى : { كذلكم قال الله من قبل } يريد وعده قبل باختصاصهم بها ، وقول الأعراب : { بل تحسدوننا } معناه : بل يعز عليكم أن نصيب مغنماً ومالاً ، فرد الله على هذه المقالة بقوله : { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً } أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد ، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سبباً إلى منعهم من غزوة خيبر .
وقرأ أبو حيوة : «تحسِدوننا » بكسر السين . وقرأ الجمهور من القراء : «كلام » قال أبو علي : هو أخص بما كان مفيداً حديثاً . وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب : «كلم » والمعنى فيهما متقارب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.