ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صادق في رسالته فقال : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } .
أى : لست مرسلا من عند الله - تعالى - ، وقد حكى - سبحانه - قولهم الباطل هذا بصيغة الفعل المضارع ، للإِشارة إلى تكرار هذا القول منهم ، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود .
وقوله : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أمر من الله - تعالى - لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل { كفى } في المعنى ، مزيدة للتأكيد ، وقوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } معطوف على اسم الجلالة ، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس .
والمعنى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - تكفى شهادة الله بينى وبينكم ، فهو يعلم صدق دعوتى ، ويعلم كذبكم ، ويعلم ذلك - أيضا - كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتى ، وجاءت أوصافى فيها . . .
وممن شهد لى بالنبوة ورقة بن نوفل ، فأنتم تعلمون أنه قال لى عندما أخبرته بما حدث لى في غار حراء : " هذا هو الناموس - أى الوحى - الذي أنزله الله على موسى " . . .
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب : المسلمون ، وبالكتاب : القرآن ، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده بالكتب السماوية السابقة ، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .
ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة . وقد بدأها بإثبات الرسالة . فيلتقي البدء والختام . ويشهد الله مكتفيا بشهادته . وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب :
( ويقول الذين كفروا : لست مرسلا . قل : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ، ومن عنده علم الكتاب )
وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشرى في أرجاء الكون ، وأرجاء النفس ، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة . وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام ، والتي يحسم بها كل جدل ، وينتهي بعدها كل كلام . .
وبعد . . ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية ، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة . . وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها ؛ لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات ؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين !
وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة ؛ فنرجو أن نقف عندها الآن وقفات أطول بقدر المستطاع .
إن افتتاح السورة ، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها ، وكثيرا من التوجيهات فيها . . كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية - وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف - وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين ؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول [ ص ] واستعجال العذاب الذي ينذرهم به ؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول [ ص ] ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه ، في وجه المعارضة والإعراض ، والتكذيب والتحدي ؛ والاستعلاء بهذا الحق ، والالتجاء إلى الله وحده ؛ وإعلان وحدانيته إلها وربا ؛ والثبات على هذه الحقيقة ؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق ، مهما كذب بها المشركون . كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله ، وفي أنفسهم ، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك ؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطابا مؤثرا موحيا عميق الإيقاع قوي الدلالة .
وهذه نماذج من التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق ؛ وأن الإعراض عنه ، والتكذيب به ، والتحدي ، وبطء الاستجابة ، ووعورة الطريق . . كلها لا تغير شيئا من تلك الحقيقة الكبيرة :
( تلك آيات الكتاب ، والذي أنزل إليك من ربك الحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وإن ربك لشديد العقاب . ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد ) .
( له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ، إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .
( كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال ) . .
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . .
( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك . وهم يكفرون بالرحمن . قل : هو ربي ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وإليه متاب ) . .
والذين آتيانهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ، ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو ، وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا . ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق . .
( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .
( ويقول الذين كفروا : لست مرسلا . قل : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) . .
وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله [ ص ] ويتحدون بها هذا القرآن ؛ ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي .
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني الرباني لرسول الله [ ص ] أن يجهر - في مواجهة الأعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق - بالحق الذي معه كاملا ؛ وهو أنه لا إله إلا الله ، ولا رب إلا الله ، ولا معبود إلا الله ، وأن الله هو الواحد القهار ، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار . . وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها . . وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه ! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم ! . .
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها ! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين ، وألا يخفوا منها شيئا ، وألا يؤجلوا منها شيئا . . وفي مقدمة هذه الحقائق : أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا الله . ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله . . فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيا كانت المعارضة والتحدي ؛ وأيا كان الإعراض من المكذبين والتولي ؛ وأيا كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك . . وليس من " الحكمة والموعظة الحسنة " إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله ، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه ! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين ، أو يكيدون له وللدعاة إليه ! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ؛ ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي ، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية ، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده !
إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه ؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد [ ص ] بتوجيه من ربه . . فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق ؛ وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج . . والله - بعد ذلك - متكفل بدينه ، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت !
والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلو - وهو هذا القرآن - وبين كتاب الكون المفتوح ؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية ؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره . كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري ، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضا . ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعا ؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعا !
وهذه السورة تحوي الكثير من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني - عقب الكتاب القرآني - في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها . . وهذه بعض هذه النماذج :
آلمر . تلك آيات الكتاب . والذي أنزل إليك من ربك الحق ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ؛ ثم استوى على العرش ؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، يدبر الأمر ، يفصل الآيات ، لعلكم بلقاء ربكم توقنون . وهو الذي مد الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشى الليل النهار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل - صنوان وغير صنوان - يسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . .
يحشد السياق هذه المشاهد الكونية ، ليحيل الكون كله شاهدا ناطقا بسلطان الله - سبحانه - في الخلق والإنشاء ، والتقدير والتدبير . ثم يعجب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها ، ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى ، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه الحقيقة القريبة . . القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة . .
( وإن تعجب فعجب قولهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? أولئك الذين كفروا بربهم ، وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ، وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء . . . . .
يعرض هذه الصفحة من الوجود الكوني ليعجب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به ، وهم يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه ، ودينونة الكون له ، وتصريفه وتدبيره لأمر العباد فيه ؛ وعجز كل من عداه - سبحانه - عن الخلق والتدبير والتقدير :
( وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحال . له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه - وما هو ببالغه - وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وظلالهم بالغدو والآصال . . قل : من رب السماوات والأرض ? قل : الله . قل : أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل : هل يستوي الأعمى والبصير ? أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل : الله خالق كل شيء ، وهو الواحد القهار ) .
وهكذا يستحيل الكون معرضا باهرا لدلائل القدرة وموحيات الإيمان ، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل العميق ؛ ويخاطب الكينونة البشرية جملة ، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة والظاهرة ، في تناسق عجيب .
ثم يضيف إلى صفحات الكتاب الكوني ، صفحات التاريخ الإنساني ؛ ويعرض آثار القدرة والسلطانوالهيمنة والقهر والتقدير والتدبير في حياة الإنسان :
( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ! ) .
( الله يعلم ما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام وما تزداد ، وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال . سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله ، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ، وما لهم من دونه من وال ) . .
( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وفرحوا بالحياة الدنيا ، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) . .
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله ، إن الله لا يخلف الميعاد . ولقد استهزى ء برسل من قبلك ، فأمليت للذين كفروا ، ثم أخذتهم ، فكيف كان عقاب ? .
أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? والله يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
( وقد مكر الذين من قبلهم ، فلله المكر جميعا ، يعلم ما تكسب كل نفس ، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ! ) .
وهكذا يحشد المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري ؛ ويحيلها إلى مؤثرات وموحيات ، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق .
ونقف من هذا الحشد على معلم من معالم هذا المنهج في الدعوة إلى الله - على بصيرة - دعوة تخاطب الكينونة البشرية بجملتها ، ولا تخاطب فيها جانبا واحدا من قواها المدركة . . جانب الفكر والذهن ، أو جانب الإلهام والبصيرة ، أو جانب الحس والشعور . .
وهذا القرآن ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة ، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله ، قبل الاتجاه إلى أي مصدر سواه . والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس ، وكيف يوقظون القلوب الغافية ، وكيف يحيون الأرواح الخامدة .
إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله ، خالق هذا الإنسان ، العليم بطبيعة تكوينه ، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها . . وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحاكميته وسلطانه ؛ فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق - على ذلك النحو - كيما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده ، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه . .
ولتعريف الناس بربهم الحق ، ونفي كل شبهة شرك ، يعني المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول . . ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من قبل ، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة - وبخاصة في العقائد النصرانية - حيث خلعت على عيسى - عليه السلام - خصائص الألوهية وخصائص الربوبية ؛ ودخل أتباع شتى الكنائس في متاهة من الخلافات العقيدية المذهبية بسبب ذلك الخلط المنافي للحقيقة .
ولم تكن عقائد النصارى وحدهم هي التي دخلت في تلك المتاهة ؛ فقد خبطت شتى الوثنيات في ذلك التيه ؛ وتصورت للنبوة صفات غامضة ؛ بعضها يصل بين النبوة والسحر ! وبعضها يصل بين النبوة والتنبؤات الكشفية ! وبعضها يصل بين النبوة والجن والأرواح الخفية !
وكثير من هذه التصورات كان يخالج الوثنية العربية . . من أجل هذا كان بعضهم يطلب من الرسول [ ص ] أن ينبئهم بالغيب ! وبعضهم كان يقترح أن يصنع لهم خوارق مادية معينة ! كما أنهم كانوا يرمونه [ ص ] بأنه ساحر ، وبأنه " مجنون " - أي على صلة بالجن ! - وبعضهم كان يطلب أن يكون معه ملك . . . إلى آخر هذه المقترحات والتحديات والاتهامات التي كانت متلبسة بالتصورات الوثنية عن طبيعة النبي وطبيعة النبوة !
ولقد جاء هذا القرآن ليجلي الحقيقة كاملة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي ؛ وعن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ؛ وعن حقيقة الألوهية المتمثلة في الله وحده - سبحانه - وحقيقة العبودية التي تشمل كل ما خلق الله وكل من خلق ؛ ومنهم أنبياء الله ورسله ؛ فهم عباد صالحون ؛ وليسوا خلقا آخر غير البشر ؛ وليس لهم من خصائص الألوهية شيء ؛ وليسوا على اتصال بعوالم الجن والخفاء المسحور ! إنما هو الوحي من الله - سبحانه - وليس لهم وراءه شيء من القدرة على الخوارق - إلا بإذن الله حين يشاء - فهم بشر من البشر ، وقع عليهم الاختيار ، وبقيت لهم بشريتهم وعبوديتهم لله - سبحانه - كبفية خلق الله .
وفي هذه السورة نماذج من تجلية طبيعة النبوة والرسالة ؛ وحدود النبي والرسول ؛ وتخليص العقول والأفكار من رواسب الوثنيات كلها ؛ وتحريرها من تلك الأساطير التي أفسدت عقائد أهل الكتاب من قبل ؛ وردتها إلى الوثنية بأوهامها وأساطيرها !
وقد كانت تلك التجلية تواجه تحديات المشركين الواقعية ؛ ولم تكن جدلا ذهنيا ، ولا بحثا فلسفيا " ميتافيزيقيا " كانت " حركة " تواجه " الواقع " وتجاهد مجاهدة واقعية :
( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد ) . .
( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) . .
وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ، وهم يكفرون بالرحمن ، قل : هو ربي ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وإليه متاب . .
( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ، لكل أجل كتاب ) . .
( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .
وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول . . إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله . ثم هو عبد لله ، الله ربه ، وإليه متابه ومآبه ؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل ؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية ؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية . .
وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهومة في الفضاء والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية ؛ والتي قضت على " المسيحية " منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام ؛ تجعل المسيح عبدا لله ؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله .
ولا ننتهي من هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفتة البارزة في قوله تعالى :
( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) . .
إن هذا القول إنما يقال للنبي [ ص ] الرسول الذي أوحي إليه من ربه . وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة . . وخلاصة هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه ! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس . فالله وحده هو الذي يملك الهداية . وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته . . البلاغ . . وحسابهم بعد ذلك على الله . . وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته . فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله .
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله ! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر . . ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين . . ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيرا فلم يستجب لنا إلا القليل ؛ أو لقد صبرنا طويلا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء ! . . إن عليهم إلا البلاغ . . أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد . إنما هو من شأن الله ! فينبغي - تأدبا في حق الله واعترافا بالعبودية له - أن يترك له سبحانه ، يفعل فيه ما يشاء ويختار . .
والسورة مكية . . من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول [ ص ] " بالبلاغ " ذلك أن " الجهاد " لم يكن بعد قد كتب . فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد - بعد البلاغ - وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين . فالنصوص فيه نصوص حركية ؛ مواكبة لحركة الدعوة وواقعها ؛ وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها . . وهذا ما تغفل عنه كثرة " الباحثين " في هذا الدين في هذا الزمان . وهم يزاولون " البحث " ولا يزاولون " الحركة " فلا يدركون - من ثم - مواقع النصوص القرآنية ، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين !
وكثيرون يقرأون مثل هذا النص : ( إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ . فإذا قاموا " بالتبليغ " فقد أدوا ما عليهم ! . . أما " الجهاد " ! فلا أدري - والله - أين مكانه في تصور هؤلاء !
كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص ، فلا يلغون به الجهاد ، ولكن يقيدونه ! . . دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد . ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية . ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين ؛ إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون ! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون . فما هو بدين القاعدين !
على أن( البلاغ )يظل هو قاعدة عمل الرسول ، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين . وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد . فإنه متى صح ، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية . . أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى ؛ واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده ، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره . . فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله ، المبلغين التبليغ الصحيح ، بالإعراض والتحدي ، ثم بالإيذاء والمكافحة . . . ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في حينها ، نتاجا طبيعيا للتبليغ الصحيح لا محالة : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ، وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .
هذا هو الطريق . . . وليس هنالك غيره من طريق !
ثم نقف من السورة أمام معلم آخر ، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه " الإنسان " وحركته وبين تحديد مآله ومصيره ؛ وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال حركته بنفسه ؛ وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص . . ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة الإسلامية في هذه القضية الخطيرة . . وهذه نماذج منها كافية :
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ، وما لهم من دونه من وال ) . .
( للذين استجابوا لربهم الحسنى ، والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ، أولئك لهم سوء الحساب ، ومأواهم جهنم وبئس المهاد ) . .
( قل : إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) . .
( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ? ! ) . .
( بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
وواضح من النص الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم ، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرا شعوريا وعمليا . فإذا غير القوم ما بأنفسهم اتجاها وعملا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم . . فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد ، ولم يعصمهم من الله شيء ، ولم يجدوا لهم من دونه وليا ولا نصيرا .
فأما إذا هم استجابوا لربهم ، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة ، فإن الله يريد بهم الحسنى ، ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا ، فإذا لم يستجيبوا أراد بهم السوء ، وكان لهم سوء الحساب ، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه - غير مستجيبين - يوم الحساب !
وواضح من النص الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم ؛ وأن مشيئة الله بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه .
أما النص الثالث فإن مطلعه يتحدث عن طلاقة مشيئة الله في إضلال من يشاء . ولكن عقب النص : ويهدي إليه من أناب . . . الخ يقرر أن الله - سبحانه - يقضي بالهدى لمن ينيب إليه ؛ فيدل هذا على أنه إنما يضل من لا ينيب ومن لا يستجيب ، ولا يضل منيبا ولا مستجيبا . وذلك وفق وعده سبحانه في قوله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . فهذه الهداية وذلك الإضلال هما مقتضى مشيئته سبحانه بالعباد . هذه المشيئة التي تجري وتتحقق من خلال تغيير العباد ما بأنفسهم ، والاتجاه إلى الاستجابة أو الإعراض .
والنص الرابع يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا . . وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، أو لقهرهم على الهدى . ولكنه - سبحانه - شاء أنيخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال ؛ ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال - حاشاه ! - إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان .
أما النص الخامس فيقرر أن الذين كفروا زين لهم مكرهم وصدوا عن السبيل . . وأخذ أمثال هذا النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر والاختيار . . أما أخذه مع مجموعة النصوص - كما رأينا - فإنه يعطي التصور الشامل : وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل ، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة لله . أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم بالتزيين والصد والإضلال .
وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل . . ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم . فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله ؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص ؛ تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . .
وليست هنالك آلية في نظام الكون كله ، ولا حتمية أسباب تنشيء بذاتها آثارا . فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر . . وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه ، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث : ( وكل شيء عنده بمقدار ) .
وهذا التصور - كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة - يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني ؛ بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله . فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته . . وما أثقلها من تبعة ! وما أعظمها كذلك من كرامة !
وفي السورة كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين ، على فساد الكينونة البشرية ، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها ، واختلال طبيعتها وخروجها عن سوائها . فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية ، غير مطموسة ولا معطلة ولا مشوهة ؛ ثم يعرض عليها هذا الحق ، ويبين لها بالصورة التي بينها المنهج القرآني ؛ ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام . والفطرة الإنسانية بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها ؛ فإذا صدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة فيه تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى ؛ وتجعله بذلك مستحقا للضلال ، ومستحقا للعذاب ، كما قال الله سبحانه في السورة الأخرى ؛ ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) . .
وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمى وانطماس بصيرة ، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى ، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها ؛ وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون :
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهدالله ولا ينقضون الميثاق ، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . . ) . .
( ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب . الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) . .
( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين . يغشي الليل النهار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) . .
وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم - بشهادة الله سبحانه - عمي . وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون . وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب ، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله ، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة ، فتسكن وتستريح .
وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله ، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله . . فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة . وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها ، وهو يسبح بحمد ربه ؛ وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره .
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا - بشهادة الله سبحانه - فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله ، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله . . لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى ! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان ؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته ؛ أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه . .
وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر - غير الإسلامي - بجملته - فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله [ ص ] بقوله : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " . فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله ، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق . . فهو أعمى بشهادة الله سبحانه . . ولن يرد شهادة الله مسلم . . ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم ! ! !
إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد ؛ وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم . . وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها ؛ إن لم يكن هو رد شهادة الله - سبحانه - وهو الكفر البواح في هذه الصورة !
وأعجب العجب أن ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون ؛ ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه : إنهم عمي . ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون !
إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل ، وجزم لا يحتمل التميع ، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة . .
فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه . والله غني عن العالمين !
وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم ، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته ؛ وهو يعلم أن ما جاءه به محمد [ ص ] هو الحق ؛ وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق( أعمى ) . ثم يتبع هذا الأعمى ، ويتلقى عنه ، بعد شهادة الله سبحانه وتعالى . .
وأخيرا نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين . .
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير . فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة ، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . . هم الذين يفسدون في الأرض ؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض ، وتزكو بهم الحياة :
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . . . .
( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) . .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد [ ص ] هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ؛ ويقيمون الصلاة ؛ وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة ؛ التي تسير على هدى الله وحده ؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد [ ص ] هو الحق وحده ؛ والتي تتبع - من ثم - مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية ! . .
إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد [ ص ] هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية ! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله ، تضعهي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله ؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله . .
وآية هذا الذي نقوله - استمدادا من النص القرآني - هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! . . وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! . . إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ؛ ولا تلتزم - من ثم - بعهد الله وشرعه ؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله ؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ؛ وكل وضع كذلك سياسي ، غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد ، الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله ، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي !
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله ؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط ؛ ولم ترتفع " إنسانيتها " قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .
هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة ، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها ، ولكنها تشير إليها .
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
{ ويقول الذين كفروا لست مُرسلاً } قيل المراد بهم رؤساء اليهود . { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها . { ومن عنده علم الكتاب } علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز ، أو علم التوراة وهو ابن سلام وأضرابه ، أو علم اللوح المحفوظ وهو الله تعالى ، أي كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيدا بيننا فيخزي الكاتب منا ، ويؤيده قراءة من قرأ { ومن عنده } بالكسر و{ علم الكتاب } وعلى الأول مرتفع بالظرف فإنه معتمد على الموصول ، ويجوز أن يكون مبتدأ والظرف خبره وهو متعين على الثاني . وقرئ { ومن عنده علم الكتاب } على الحرف والبناء للمفعول .
عطف على ما تضمنته جملة { وقد مكر الذين من قبلهم } [ الرعد : 42 ] من التعريض بأن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } [ سورة الأنعام : 37 ] ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول ، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب . فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا : { لست مرسلاً } .
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق ، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى : { ويصنع الفلك } [ سورة هود : 38 ] وقوله : { يجادلنا في قوم لوط } [ سورة هود : 11 ] .
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم .
وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع .
ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم .
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كفى } في المعنى للتأكيد وأصل التركيب : كفى اللّهُ . و { شهيداً } حال لازمة أو تمييز ، أي كفى الله من جهة الشاهد .
{ ومن عنده علم الكتاب } معطوف على اسم الجلالة .
والموصول في { ومن عنده علم الكتاب } يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة . والمعنى : وكل من عندهم علم الكتاب . وإفراد الضمير المضاف إليه { عِنْدَ } لمراعاة لفظ { من } . وتعريف { الكتاب } تعريف للعهد ، وهو التوراة ، أي وشهادة علماء الكتاب . وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة .
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّناً ، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح . وكان ورقة منفرداً بمعرفة التوراة والإنجيل . وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفاً عند قريش .
فالتعريف في { الكتاب } تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل .
وقيل : أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمهِ المدينة . ويبعده أن السورة مكية كما تقدم .
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل صلى الله عليه وسلم ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقاً لسنن الشرائع الإلهية ومفسراً للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به . ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب { من عنده علم الكتاب } دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم . قال تعالى : { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [ سورة الشعراء : 97 ] .