ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالتزام الصرام المستقيم فقال - سبحانه - : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
والفاء للتفريع على ما تقدم من الأوامر والنواهى .
والاستقامة - كما يقول القرطبى - هي الاستمرار فى جهة واحدة من غير أخذ فى جهة اليمين والشمال . . .
والطغيان : مجاوزة الحد . ومنه طغى الماء ، أى ارتفع وتجاوز الحدود المناسبة .
والمعنى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - حال السعداء وحال الأشقياء ، وعرفت أن كل مكلف سيوفى جزاء أعماله .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
ووجه - سبحانه - الأمر بالاستقامة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تنويها بشأنه ، وليبنى عليه قوله - { كَمَآ أُمِرْتَ } ، فيشي بذلك إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - هو وحده المتلقى للأوامر الشرعية من الله - تعالى - .
وقد جمع قوله - تعالى - { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } أصول الإِصلاح الدينى وفروعه ، كما جمع قوله - تعالى - " ولا تطغوا " أصول النهى عن المفاسد وفروعه ، فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإِقامة المصالح ولدرء المفاسد .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله - تعالى - رسوله وعباده المؤمنين فى هذه الآية بالثبات والدوام على الاستقامة ، لأن ذلك من العون على النصر على الأعداء ، وينهاهم عن الطغيان وهو البغى ، لأنه مصرعه حتى ولو كان على مشرك .
وقال الآلوسى : والاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق .
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال ، لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -
" شمروا شمروا ، وما رؤى بعد ضاحكا " .
وعن ابن عباس قال : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آية أشد من هذه الآية ولا أشق " .
وفى صحيح مسلم عن سفيان عن عبد الله الثقفى قال : " قلت يا رسول الله ، قل لى فى الإِسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " " .
وجملة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليل للأمر بالاستقامة وللنهى عن الطغيان .
أى : الزموا المنهج القويم ، وابتعدوا عن الطغيان ، لأنه - سبحانه - مطلع على أعمالكم اطلاع المبصر ، العليم بظواهرها وبواطنها ، وسيجازيكم يوم القيامة عليها بما تستحقون من ثواب وعقاب .
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي و عيده . وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم - كما أمروا - لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه ، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم ، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق . ثم يتزودون بزاد الطريق ، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد .
( فاستقم كما أمرت - ومن تاب معك - ولا تطغوا . إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين ، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . .
هذا الأمر للرسول [ ص ] ومن تاب معه :
( فاستقم كما أمرت ) . . أحس - عليه الصلاة والسلام - برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه : " شيبتني هود . . . " . فالاستقامة : الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف . وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة ، والتدبر الدائم ، والتحري الدائم لحدود الطريق ، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا . . ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة .
وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير ، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة . . وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر . والله يريد دينه كما أنزله ، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو ، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير . وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ، لإمساك النفوس على الصراط ، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء . .
والبصر - من البصيرة - مناسب في هذا الموضع ، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير . .
{ فاستقم كما أُمرت } لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوهما وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " شيبتني هود " . { ومن تاب معك } أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك ، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه . { ولا تطغوا } ولا تخرجوا عما حد لكم . { إنه بما تعملون بصير } فهو مجازيكم عليه ، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي . وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان .
أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت ، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به . والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر ، ولسائر أمته بالمعنى ، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له : يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت : شيبتني هود وأخواتها{[6524]} فما الذي شيبك من هود ؟ قال له : قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل المشهور في قوله عليه السلام : شيبتني هود وأخواتها - أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة ، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السلام .
وقوله : { أمرت } مخاطبة تعظيم ، وقوله : { ومن } معطوف على الضمير في قوله : { فاستقم } ، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله : { كما أمرت } . و { لا تطغوا } معناه : ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى ، و «الطغيان » : تجاوز الحد ومنه قوله : { طغى الماء }{[6525]} وقوله في فرعون : { إنه طغى }{[6526]} ، وقيل في هذه معناه : ولا تطغينكم النعم ، وهذا كالأول .