بعد كل ذلك ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عما افتتحت به من الحديث عن الأحكام والآداب التى شرعها الله - تعالى - ، وأمر المؤمنين بالتمسك بها فقال - تعالى - : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ . . . } روايات منها : أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد ، دخل عليها غلام كبير لها ، فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :
ومنها ما روى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فى وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، إلى عمر بن الخطاب ، فدق الغلام الباب على عمر - وكان نائما - فاستيقظ ، وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر : لوددت أن الله - تعالى - نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا من الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله - تعالى - .
وقد صدرت الآية الكريمة بندائهم بصفة الإيمان . لحضهم على الامتثال لما اشتملت عليه من آداب قويمة . وتوجيهات حكيمة .
واللام فى قوله { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } هى لام الأمر والمراد بما ملكت أيمانهم : الأرقاء سواء أكانوا ذكورا أم إناثا ، ويدخل فيهم الخدم ومن على شاكلتهم .
والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم . الأطفال الذين فى سن الصبا ولم يصلوا إلى سن البلوغ إلا أنهم يعرفون معنى العورة ويميزون بين ما يصح الاطلاع عليه وما لا يصح .
والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال ، والنساء ، عليكم أن تمنعوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ ، من الدخول عليكم فى مضاجعكم بغير إذن فى هذه الأوقات الثلاثة ، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه .
فقوله - تعالى - : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } تحديد للأوقات المنهى عن الدخول فيها بدون استئذان ، أى : ثلاث أوقات فى اليوم والليلة .
ثم بين - سبحانه - هذه الأوقات فقال : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } وذلك لأن هذا الوقت يقوم فيه الإنسان من النوم عادة ، وقد يكون متخففا من ثيابه . ولا يجب أن يراه أحد وهو على تلك الحالة .
{ وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة } أى : وحين تخلعون ثيابكم وتطرحونها فى وقت الظهيرة ، عند شدة الحر ، لأجل التخفيف منها وارتداء ثياب أخرى أرق من تلك الثياب ، طلبا للراحة واستعدادا للنوم .
{ وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } لأن هذا الوقت يتجرد فيه الإنسان من ثياب اليقظة ، ليتخذ ثيابا أخرى للنوم .
وقوله - سبحانه - : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } خبر مبتدأ محذوف ، والعورات : جمع عورة .
وتطلق على ما يجب ستره من الإنسان ، وهى - كما يقول الراغب - مأخوذة من العار ، وذلك لأن المظهر لها يلحقه العار والذم بسبب ذلك .
أى : هذه الأوقات من ثلاث عورات كائنة لكم - فعليكم أن تعودوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم . على الاستئذان عند إرادة الدخول عليكم فيها ، لأنها أوقات يغلب فيها اختلاء الرجل بأهله ، كما يغلب فيها التخفف من الثياب ، وانكشاف ما يجب ستره .
وقوله - سبحانه - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } بيان لمظهر من مظاهر التيسير فى شريعة الإسلام .
أى : وليس عليكم أيها المؤمنون والمؤمنات ، ولا عليهم ، أى : أرقائكم وصبيانكم " جناح " اآ : حرج أو إثم فى الدخول بدون استئذان " بعدهن " أى : بعد كل وقت من تلك الأوقات الثلاثة .
وقوله - تعالى - { طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } تعليل لبيان العذر المرخص فى ترك الاستئذان فى غير الأوقات التى حددها الله - تعالى - .
أى : لا حرج فى دخول مماليككم وصبيانكم عليكم فى غير هذه الأوقات بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم فى التردد عليكم ، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح فى كثير من الأوقات .
وبذلك يجمع الإسلام فى تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة ، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
أى : مثل هذا البيان الحكيم يبين الله - تعالى - لكم الآيات التى توصلكم متى تمسكتم بها ، إلى طريق الخير و السعادة ، والله - عز وجل - عليم بما يصلح عباده ، حكيم فى كل ما يأمر به ، أو ينهى عنه .
وهكذا تسوق لنا الآية الكريمة ألوانا من الأدب السامى ، الذى يجعل الكبار والصغار يعيشون عيشة فاضلة ، عامرة بالطهر والعفاف والحياء ، والنقاء من كل ما يجرح الشعور ، ومن كل تصور يتنافى مع الخلق الكريم .
( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ؛ ثلاث مرات : من قبل صلاة الفجر ، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء . ثلاث عورات لكم . ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن . طوافون عليكم بعضكم على بعض . كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) . .
لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت .
فالخدم من الرقيق ، والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة ، فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي : الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج . ووقت الظهيرة عند القيلولة ، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة . وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .
وسماها( عورات )لانكشاف العورات فيها . وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم ، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية ، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب ، سليمة الصدور ، مهذبة المشاعر ، طاهرة القلوب ، نظيفة التصورات .
ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة : ( طوافون عليكم بعضكم على بعض ) . . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ، وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
{ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها ، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بن تأبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت . وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر ، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بأذن ، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية : { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله . { ثلاث مرات } في اليوم والليلة مرة . { من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ، ومحله النصب بدلا من ثلاث مرات أو الرفع خبرا لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر . { وحين تضعون ثيابكم } أي ثيابكم لليقظة للقيلولة . { من الظهيرة } بيان للحين . { ومن بعد صلاة العشاء } لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف . { ثلاث عورات لكم } أي هوي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور . وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي { ثلاث } بالنصب بدلا من { ثلاث مرات } { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين . { طوافون عليكم } أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص فيترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة ، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات . { بعضكم على بعض } بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض . { كذلك } مثل ذلك التبيين . { يبين الله لكم الآيات } أي الأحكام . { والله عليم } بأحوالكم . { حكيم } فيما شرع لكم .