ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك تتحدث عن غزوة أحد وعن آثارها فى نفوس المؤمنين ، فبدأت بالإشارة إلى سنن الله فى المكذبين بآياته ؛ لتخفف عن المؤمنين مصابهم ، ثم أمرتهم بالصبر والثبات ونهتهم عن الوهن والجزع لأنهم هم الأعلون . وإن تكن قد أصابتهم جراح فقد أصيب المشركون بأمثالها ، والله - تعالى – ذكرأن ما حدث فى غزوة أحد حكم ، منها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء ، ومحق الكافرين . استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق تلك المعانى بأسلوبه الذى يبعث الأمل فى قلوب المؤمنين . ويرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم ، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ، ويخفف عنه آلامهم فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
وأصل الخلو فى اللغة : الانفراد . والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضا فى الزمان بمعنى المضى : لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
والسنن جمع سنة وهى الطريقة المستقيمة والمثال المتبع . وفى اشتقاق هذه اللفظة وجوه منها : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه . والسن الصب للماء . والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب ، فإنه لتوالى أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشىء الواحد " .
والمراد بالسنن هنا : وقائع فى الأمم المكذبة ، أجراها الله - تعالى - على حسب عادته ، وهى الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم عن أمره .
والمعنى : إنه قد مضت وتقررت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن ثابتة ، ونظم محكمة فيما قدره - سبحانه - من نصر وهزيمة ، وعزة وذلة ، وعقاب فى الدنيا وثواب فيها ، فالحق يصارع الباطل ، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنه - سبحانه - من سنة فى النصر والهزيمة .
وقد جرت سننه - سبحانه - فى خلقه أن يجعل العاقبة للمؤمنين الصادقين ، وأن يملى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
فإن كنتم فى شك من ذلك - أيها المؤمنون - { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .
أى : فسيروا فى الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التى انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم .
قالوا : وليس المراد بقوله { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا } الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير فى الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :
تلك آثارنا تدل علينا . . . فانظروا بعدنا إلى الآثار
والتعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام ، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التى تدعو إلى العجب ، وتثير الاستغراب ، وتغرس الاعتبار والاتعاظ فى قلوب المؤمنين ؛ لأن هؤلاء المكذبين . مكن الله لهم فى الأرض ، ومنحهم الكثير من نعمه . ولكنهم لم يشكروه عليها ، فأهلكهم بسبب طغيانهم .
فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التى تركها السابقون ، فإنها أصدق من رواية الرواة ومن أخبار المخبرين .
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق .
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها : حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ! ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟ !
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدىمنهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .
( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة : إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .