ثم حكى القرآن ما رد به قوم صالح عليه فقال : { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا . . } .
أى : قال قوم صالح له بعد أن دعاهم لما يسعدهم : يا صالح لقد كنت فينا رجلا فاضلا نرجوك لمهمات الأمور فينا لعلمك وعقلك وصدقك . . قبل أن تقول ما قلته ، أما الآن وبعد أن جئتنا بهذا الدين الجديد فقد خاب رجاؤنا فيك ، وصرت فى رأينا رجلا مختل التفكير .
فالإِشارة فى قوله { قَبْلَ هذا } إلى الكلام الذى خاطبهم به حين بعثه الله إليهم .
والاستفهام فى قولهم { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } للتعجيب والإِنكار .
أى : أجئتنا بدعوك الجديد لتنهانا عن عبادة الآلهة التى كان يعبدها آباؤنا من قبلنا ؟
لا ، إننا لن نستجيب لك ، وإنما نحن قد وجدنا آباءنا على دين وإننا على آثارهم نسير .
ثم ختموا ردهم عليه بقولهم : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
ومريب : اسم فاعل من أراب . تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة أى : القلق والاضطراب .
أى : لن نترك عبادة الأصنام التى كان يعبدها آباؤنا ، وإننا لفى شك كبير ، وريب عظيم من صحة ما تدعونا إليه .
ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق . . وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون !
( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
لقد كان لنا رجاء فيك . كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا جميعه . ولكن هذا الرجاء قد خاب . .
( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) . .
إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إلا هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه . شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول :
( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه ؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده . لماذا ؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير . ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة !
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين . وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء !
وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل وتذكرنا قولة ثمود لصالح :
( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) . .
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته . فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح ، وقالوا : ساحر . وقالوا : مفتر . ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !
إنها طبيعة واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح ، عليه السلام ، وبين قومه ، وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم : { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا } أي : كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت ! { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } وما كان عليه أسلافنا ، { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : [ في ]{[14713]} شك كثير{[14714]} .
قوله : { مرجواً } معناه : مسوداً ؛ نؤمل فيك أن تكون سيداً سادّاً مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم : { أتنهانا } وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيراً .
قال القاضي أبو محمد : فأما أن يكون لفظ { مرجواً } بمعنى حقير فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أن القصد بقولهم : { مرجواً } يكون : لقد كنت فينا سهلاً مرامك قريباً رد أمرك ، ممن لا يظن أن يستفحل من أمره مثل هذا فمعنى «مرجو » أي مرجو اطراحه وغلبته ونحو هذا ، فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، فلذلك فسر بحقير ، ويشبه هذا المعنى قول أبي سفيان بن حرب : لقد َأِمََر َأْمُر ابن أبي كبشة*** الحديث ؛ ثم يجيء قولهم : { أتنهانا } على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه .
و { ما يعبد آباؤنا } يريدون به الأوثان والأصنام ، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله ، وأن ذلك الشك يرتابون به زائداً إلى مرتبته من الشك قال القاضي : ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر ، و { مريب } معناه ملبس متهم ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
يا قوم ما بال أبي ذؤيب*** كنت إذا أتيته من غيب
يشم عطفي ويمس ثوبي*** كأنني أربته بريب{[6401]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.