وبعد أن حذر - سبحانه - المؤمنين من ولاية اليهود والنصارى ، عقب ذلك بنداء آخر وجهه إليهم ، وبين لهم فيه أن موالاة أعداء الله قد تجر إلى الارتداد عن الدين ، وأنهم إن ارتدوا فسوف يأتي الله بقوم آخرين لن يكونوا مثلهم ، وإن من الواجب عليهم أن يجعلوا ولا يتهم الله ولرسوله وللمؤمنين فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ . . . }
قوله - تعالى - { مَن يَرْتَدَّ } من الارتداد . ومعناه : الرجوع إلى الخلف ونمه قوله - تعالى - { رُدُّوهَا عَلَيَّ } أي : ارجعوها على . وقوله : { إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ } والمراد بالارتداد هنا : الرجوع عن دين الإِسلام إلى الكفر والضلال ، والخروج من الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الأباطيل والأكاذيب .
قالوا : وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن من الذين دخلوا في الإِسلام من سيرتد عنه إلى غيره من الكفر والضلال ، وقد كان الأمر كما أشارت الآية الكريمة ؛ فقد ارتد عن الإِسلام بعض القبائل كقبيلة بني حنيفة - قوم مسيلمة الكذاب - وقبيلة بني أسد ، وقبيلة بني مدلج وغيرهم .
وقد تصدى سيدنا أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين الصادقين للمرتدين فكسروا شوكة الردة ، وأعادوا لكلمة الإِسلام هيبتها وقوتها .
قال الآلوسي ما ملخصه : هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها - وقد وقع المخبر به على وفقها فيكون معجزاً - فقد روى أنه ارتد عن الإِسلام إحدى عشرة فرقة .
ثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم : " بنو مدلج ، ورئيسهم الأسود العنسي و " بنو حنيفة " قوم مسيلمة الكذاب و " بنو أسد " قوم طليحة بن خويلد الأسدي . وسبع في عهد أبي بكر وهم : فزارة ، وغطفان ، وبنو سليم ، وبنو يربوع ، وبعض بني تميم ، وكنده ، وبنو بكر بن وائل .
وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر وهي قبيلة " غسان قوم جبلة بن الأيهم " .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا يتخد أحد منكم أحدا من أعداء الله وليا ونصيراً لأن ولايتهم تفضي إلى مضرتكم وخسرانكم . بل وإلى ردتكم عن الحق الذي آمنتم به ، ومن يرتدد منكم عن دينه الحق إلى غيره من الأديان الباطلة فلن يضر الله شيئا ، لأنه - سبحانه - سوف يأتي بقوم آخرين مخلصين له ، ومطيعين لأوامره ، ومستجيبين لتعاليمه . بدل أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم ، وكفروا بعد إيمانهم . قال - تعالى - : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } ولفظ { فسوف } جيء به هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل ، إذا ما ارتد بعض الناي على أدبارهم .
وقد وصف الله - تعالى - أولئك القوم الذين يأتي بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم ، وصفهم بعدد من الصفات الحميدة ، والسجايا الكريمة .
وصفهم - أولا - بقوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
ومحبة الله - تعالى - للمؤمنين هي أسمى نعمة يتعشقونها ويتطلعون إليها ، ويرجون حصولها ودوامها . وهي - كما يقول الآلوسي - محبة تليق بشأنه على المعنى الذي أراده .
ومن علاماتها : أن يوفقهم - سبحانه - لطاعته ، وأن ييسر لهم الخير في كل شئونم .
ومحبة المؤمنين لله - تعالى - معناها : التوجه إليه وحده بالعبادة ، واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، والاستجابة لتعاليمه برغبة وشوق .
وقوله : { يحبهم } جملة في محل جر صفة لقوم . وقوله " يحبونه " معطوف على { يحبهم } .
وقدم - سبحانه - محبته لهم على محبتهم له ، لشرفها وسبقها ، إذ لولا محبته لهم لما وصلوا إلى طاعته .
وصفهم - ثانياً - بقوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } .
وقوله : { أذلة } جمع ذليل ، من تذلل إذا تواضع وحنا على غيره ، وليس المراد بكونهم أذلة أنهم مهانون ، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب للمؤمنين .
وقوله : { أعزة } جمع عزيز وهو المتصف بالعزة بمعنى القوة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر ومن قوله - تعالى - { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أي : غلبني في الخطاب .
والمعنى : إن من صفات هؤلاء القوم الذين يأتي الله بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم ، أنهم أرقاء على المؤمنين ، عاطفون عليهم متواضعون لهم ، تفيض قلوبهم حنوا وشفقة بهم . وأنهم في الوقت نفسه أشداء على الكافرين ، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب ، لا نظرة الضعيف الخانع .
وهذه - كما يقوال ابن كثير - صفات المؤمنين الكمل . أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه ، متعززاً على خصمه وعدوه كما قال - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ومن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم : " أنه الضحوك القتال " فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع .
والثاني : أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين - خافضون لهم أجنحتهم .
وقال الطيبي : إن قوله - تعالى - { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } جيء به للتكميل ، لأنه لما وصفهم قبل ذلك بالتذلل ، ربما يتوهم أحد أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم فدفع ذلك الوهم بأنهم مع ذلتهم على المؤمنين أعزة على الكافرين على حد قول القائل :
جلوس في مجالسهم رزان . . . وإن ضيم ألم بهم خفاف
ثم وصفهم - ثالثا - بقوله : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } وقوله : { يُجَاهِدُونَ } من المجاهدة وهي بذل الجهد ونهاية الطاقة من أجل الوصول إلى المقصد الذي يسعى إليه الساعي .
وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } أي في سبيل إعلاء دين الله ، وإعزاز كلمته وليس في سبيل الهوى أو الشيطان .
واللومة : هي المرة الواحدة من اللوم . وهو بمعنى اعتراض المعترضين ، ومخالفة المخالفين وعدم رضاهم عن هؤلاء القوم .
والمعنى : أن من صفات هؤلاء القوم - أيضا - أنهم يبذلون أقصى جهدهم في سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على مرضاته ، وأنهم في جهادهم وجهرهم بكلمة الحق ، وحرصهم على ما يرضيه - سبحانه - لا يخافون لوما قط من أي لائم كائنا من كان .
لأن خشيتهم ليست إلا من الله وحده .
وعبر - سبحانه - بلومة - بصيغة الإِفراد والتنكير ، للمبالغة في نفي الخورف عنهم سواء أصدر اللوم لهم من كبير أم من صغير ، وسواء أكانت اللومة شديدة أم رفيقة . .
فهم - كما يقول الزمخشري - : صلاب في دينهم ، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لإِنكار منكر أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائل ، ولا اعتراض معترض ، ولا لومة لائم ، والجملة على هذه معطوفة على { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله } . ويحتمل أن تكون الواو للحال . أي أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين الذين كانوا إذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياؤهم اليهود ، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم .
وقد ذكر المفسرون أقوالا متعددة في المراد بهؤلاء القوم الذين وصفهم الله - تعالى - بتلك الصفات الكريمة ، والذين يأتي بهم بدل أولئك الذين يرتدون على أعقابهم .
قال بعضهم : المراد بهم أبو بكر ومن معه من المؤمنين الذين قاتلوا المرتدين .
وقال آخرون : المراد بهم الأنصار الذين نصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأيدوه .
وقال مجاهد : المراد بهم أهل اليمن . . . وقيل غير ذلك .
والذي نراه أنهم قوم ليسوا مخصوصين بزمن معين أو بلد معين ، أو أشخاص معينين ، وإنما هم كل من تنطبق عليهم هذه الصفات الجليلة . فكل من أحب الله وأحبه الله ، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين . وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم ، أما ذواتهم فيعلمها الله وحده ، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه في بيان المراد بهؤلاء القوم .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يعود على ما تقدم ذكره من أوصاف القوم .
أي : ذلك الذي أعطيناه لهم من صفات كريمة فضل الله وإحسانه ، يؤتيه من يشاء إيتاءه من عباده ، والله - تعالى - واسع الفضل والجود والعطاء ، عليم بأحوال خلقه ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق قتال أعدائه - سبحانه - أو عن طريق الجهر بكلمة الحق ، أو عن طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل - دون أن يخاف المجاهد لومة لائم .
ولقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن ذلك :
ما رواه الإِمام أحمد عن أبي ذر : " أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع : أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن كنز تحت العرش " .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده . فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم " .
وعنه - أيضاً - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا : وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : أن يرى أمر الله فيه مقال فلا يقول فيه . فيقال له يوم القيامة . ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول مخافة الناس . فيقول : إياي أحق أن تخاف " .
وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى سوى التي ذكرها الإِمام ابن كثير ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمنكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله . وأن نقول بالحق حيثما كنا . لا نخاف في الله لومة لائم " .
وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا ، أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى ، وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم ، وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام - وهم لا يشعرون أو لا يقصدون - يرسل بالنداء الثاني ، يهدد من يرتد منهم عن دينه - بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب - بأنه ليس عند الله بشيء ، وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه ، وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله ، إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء . ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه ، وهي ملامح محببة جميلة وضيئة . ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه . ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب ! والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين :
( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) . .
إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم ، منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . . وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول . . يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق ، وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار ، يجمع بينهم على هذا النحو ، الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء ، وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار ، لا تتعلق بقضية الولاء ، إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء . .
( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) . .
إن اختيار الله للعصبة المؤمنة ، لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض ، وتمكين سلطانه في حياة البشر ، وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم ، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم ، وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . . إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . . فهو وذاك ، والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .
والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا ، صورة واضحة السمات قوية الملامح ، وضيئة جذابة حبيبة للقلوب :
( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) . .
فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . . الحب . . هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . . هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
وحب الله لعبد من عبيده ، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه ، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . . أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . . الذي يعرف من هو الله . . من هو صانع هذا الكون الهائل ، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير ! من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . . من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . . والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم ، الحي الدائم ، الأزلى الأبدي ، الأول والآخر والظاهر والباطن .
وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . . وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما ، وفضلا غامرا جزيلا ، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد ، الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . . هو إنعام هائل عظيم . . وفضل غامر جزيل .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه ، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . . وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد ، وهي تقول :
فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر*** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل الذي فوق التراب تراب
وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد ، والحب من العبد للمنعم المتفضل ، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض ، وينطبع في كل حي وفي كل شيء ، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . . وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . . إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا ) . . ( إن ربي رحيم ودود ) . . ( وهو الغفور الودود ) . . ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . . ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . . ( قل : إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) . . وغيرها كثير . .
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ، ليقولوا : إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف ، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر ، وعذاب وعقاب ، وجفوة وانقطاع . . . لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله ، فيربط بين الله والناس ، في هذا الازدواج !
إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لا تجفف ذلك الندى الحبيب ، بين الله والعبيد ، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل ، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد ، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . . إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين .
وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب : ( يحبهم ويحبونه ) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو ، الذي يحتاج إليه القلب المؤمن ، وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .
ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات :
وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . . فالمؤمن ذلول للمؤمن . . غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . . ميسر مستجيب . . سمح ودود . . وهذه هي الذلة للمؤمنين .
وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة ، ترفع الحواجز ، وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس ، فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .
إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه ، فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . . وماذا يبقى له في نفسه دونهم ، وقد اجتمعوا في الله إخوانا ؛ يحبهم ويحبونه ، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ؟ !
فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . . ولهذه الخصائص هنا موضع . . إنها ليست العزة للذات ، ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة ، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير ، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ؛ وبغلبة قوة الله على تلك القوى ؛ وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . . فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك ، في أثناء الطريق الطويل . .
( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) . .
فالجهاد في سبيل الله ، لإقرار منهج الله في الأرض ، وإعلان سلطانه على البشر ، وتحكيم شريعته في الحياة ، لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . . هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ؛ لا في سبيل أنفسهم ؛ ولا في سبيل قومهم ؛ ولا في سبيل وطنهم ؛ ولا في سبيل جنسهم . . في سبيل الله . لتحقيق منهج الله ، وتقرير سلطانه ، وتنفيذ شريعته ، وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء ، وليس لأنفسهم من هذا حظ ، إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . . وفيم الخوف من لوم الناس ، وهم قد ضمنوا حب رب الناس ؟ وفيم الوقوف عند مألوف الناس ، وعرف الجيل ، ومتعارف الجاهلية ، وهم يتبعون سنة الله ، ويعرضون منهج الله للحياة ؟ إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ؛ ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ؛ أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناسوشهواتهم وقيمهم ؛ وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته ، فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ؛ وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان ، وكائنة " حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !
إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ؛ ولما يفعل الناس ؛ ولما يملك الناس ؛ ولما يصطلح عليه الناس ؛ ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . . لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . . إنه منهج الله وشريعته وحكمه . . فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ؛ ولو كان عرف ملايين الملايين ، ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !
إنه ليست قيمة أي وضع ، أو أي عرف ، أو أي تقليد ، أو أية قيمة . . أنه موجود ؛ وأنه واقع ؛ وأن ملايين البشر يعتنقونه ، ويعيشون به ، ويتخذونه قاعدة حياتهم . . فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع ، وأي عرف ، وأي تقليد ، وأية قيمة ، أن يكون لها أصل في منهج الله ، الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .
ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . . فهذه سمة المؤمنين المختارين . .
ثم إن ذلك الاختيار من الله ، وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين ، وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم ، وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم ، والسير على هداه في جهادهم . . ذلك كله من فضل الله .
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم ) .
يعطي عن سعة ، ويعطي عن علم . . وما أوسع هذا العطاء ؛ الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه{[9957]} وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 ، 20 ] أي : بممتنع ولا صعب . وقال تعالى هاهنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } أي : يرجع عن الحق إلى الباطل .
قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش . وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر .
{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه [ رضي الله عنهم ]{[9958]} رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت أبا بكر بن عياش يقول في قوله{[9959]} { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هم أهل القادسية . وقال لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد : هم قوم من سبأ .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن الأجلح ، عن محمد بن عمرو ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : ناس من أهل اليمن ، ثم من كِنْدَة ، ثم من السَّكُون .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا معاوية - يعني ابن حفص - عن أبي زياد الحلفاني ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن جابر بن عبد الله قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : " هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون ، ثم من تجيب " . {[9960]} وهذا حديث غريب جدا .
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا عبد الصمد - يعني ابن عبد الوارث - حدثنا شعبة ، عن سِمَاك ، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري قال : لما نزلت : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم قوم هذا " . ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه . {[9961]}
وقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا{[9962]} لأخيه ووليه ، متعززًا على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه : " الضحوك القتال " فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه .
وقوله [ تعالى ]{[9963]} { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أي : لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله ، وقتال أعدائه ، وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يردهم عن ذلك راد ، ولا يصدهم عنه صاد ، ولا يحيك فيهم لوم{[9964]} لائم ولا عذل عاذل .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا سلام أبو المنذر ، عن محمد بن واسع ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : أمرني{[9965]} خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع ، أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا ، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنهن من كنز تحت العرش . {[9966]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن أبي{[9967]} المثنى ؛ أن أبا ذر قال : بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا ، وأشهد الله على تسعًا ، أني لا أخاف في الله لومة لائم . قال أبو ذر : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل لك إلى بيعة ولك الجنة ؟ " قلت : نعم ، قال : وبسطت يدي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط : على ألا تسأل الناس شيئا ؟ قلت : نعم قال : " ولا سوطك وإن سقط منك يعني{[9968]} تنزل إليه فتأخذه . " {[9969]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الحسن ، حدثنا جعفر ، عن المعلى القُرْدوسي ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري{[9970]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يُبَاعد من رزق{[9971]} أن يقول بحق أو يذكر{[9972]} بعظيم " . تفرد به أحمد . {[9973]}
وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن زُبَيْد عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري{[9974]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مَقَال ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس . فيقول : إياي أحق أن تخاف " .
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن عَمْرو بن مرة به . {[9975]} وروى أحمد وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة{[9976]} عن نهار بن عبد الله العبدي المدني ، عن أبي سعيد الخدري{[9977]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى إنه ليسأله يقول له : أيْ عبدي ، رأيت منكرًا فلم تنكره ؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته ، قال : أيْ رب ، وثقت بك وخفت الناس " . {[9978]}
وثبت في الصحيح : " ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " ، قالوا : وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله ؟ قال : " يتحمل من البلاء ما لا يطيق " . {[9979]}
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : من اتصف بهذه الصفات ، فإنما هو من فضل الله عليه ، وتوفيقه له ، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : واسع الفضل ، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتدد{[4592]} منكم عن دينه } الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة ، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، وقال هذا القول ابن جريج وغيره{[4593]} .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر ، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج ، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري{[4594]} وقال هذا القول عياض ، وقال شريح بن عبيد : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ولكنهم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى{[4595]} ، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضاً : الإشارة إلى أهل اليمن ، وقاله شهر بن حوشب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله عندي قول واحد ، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى ، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد ، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على أن يكون قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } خطاباً للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم . لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان ، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين ، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد » بإدغام الدال في الدال ، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد » بترك الإدغام ، وهذه لغة الحجاز ، مكة وما جاورها ، والإدغام لغة تميم ، وقوله تعالى { أذلة على المؤمنين } معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين ، وهذا كقوله تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم }{[4596]} وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين » ، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين » ، وقوله تعالى : { ولا يخافون لومة لائم } إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم . وقوله تعالى : { ذلك فضل الله } الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم ، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها . و { واسع } معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم .