وقوله - تعالى - { رَّسُولاً } بدل من { ذِكْراً } ، وعبر عن إرساله بالإنزال ، لأن الإرسال مسبب عنه .
والظاهر أن الذكر هو القرآن ، والرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسولا منصوب بمقدر ، أى : وأرسل رسولا . .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الصادقين فقال : { وَمَن يُؤْمِن بالله } إيمانا حقا { وَيَعْمَلْ } عملا { صَالِحاً يُدْخِلْهُ } - سبحانه - بفضله وإحسانه { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } خلودا أبديا . .
وقوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } حال من الضمير فى قوله { يُدْخِلْهُ } ، والجمع فى الضمائر باعتبار معنى { مِن } كما أن الأفراد فى الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها : والرزق : كل ما ينتفع به الإنسان ، وتنكيره للتعظيم .
أى : قد وسع الله - تعالى - لهذا المؤمن الصادق فى إيمانه رزقه فى الجنة ، وأعطاه من الخير والنعيم ، ما يشرح صدره ، ويدخل السرور على نفسه . ويصلح باله . .
ويجسم هذا الذكر ويمزجه بشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيجعل شخصه الكريم هو الذكر ، أو بدلا منه في العبارة : ( رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ) . .
وهنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة . .
إن هذا الذكر الذي جاء من عند الله مر إليهم من خلال شخصية الرسول الصادق حتى لكأن الذكر نفذ إليهم مباشرة بذاته ، لم تحجب شخصية الرسول شيئا من حقيقته .
والوجه الثاني لإيحاء النص هو أن شخصية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قد استحالت ذكرا ، فهي صورة مجسمة لهذا الذكر صنعت به فصارت هو . وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن . وكذلك كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهكذا وصفته عائشة - رضي الله عنها - وهي تقول : " كان خلقه القرآن " . . وهكذا كان القرآن في خاطره في مواجهة الحياة . وكان هو القرآن يواجه الحياة !
وفوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح ، وعد بنعيم الجنات خالدين فيها أبدا . وتذكير بأن هذا الرزق هو أحسن الرزق ، فلا يقاس إليه رزق الأرض : ( قد أحسن الله له رزقا ) . . وهو الرازق في الدنيا والآخرة ، ولكن رزقا خير من رزق ، واختياره للأحسن هو الاختيار الحق الكريم .
وهكذا يلمس نقطة الرزق مرة أخرى ، ويهون بهذه الإشارة من رزق الأرض ، إلى جانب رزق الجنة . بعدما وعد في المقاطع الأولى بسعة رزق الأرض أيضا . .
وقوله : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } قال بعضهم : { رَسُولا } منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة ؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر .
وقال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر ، يعني تفسيرًا له ولهذا قال تعالى : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي في حال كونها بينة واضحة جلية { لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } كقوله تعالى { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] وقال تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال : تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقوله :
رسولا يعني بالذكر جبريل عليه السلام لكثرة ذكره أو لنزوله بالذكر وهو القرآن أو لأنه مذكور في السموات أو ذا ذكر أي شرف أو محمدا صلى الله عليه وسلم لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه وأبدل منه رسولا للبيان أو أراد به القرآن و رسولا منصوب بمقدر مثل أرسل أو ذكرا مصدر ورسولا مفعوله أو بدله على أنه بمعنى الرسالة يتلو عليكم آيات الله مبينات حال من اسم الله أو صفة رسولا والمراد ب الذين آمنوا في قوله ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين آمنوا بعد إنزاله أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه يؤمن من الظلمات إلى النور من الضلالة إلى الهدى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون قد أحسن الله له رزقا فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب .
{ رسولا يتلوا عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } .
ويجوز أن يكون { رسولاً } مفعولاً لفعل محذوف يدل عليه { أنزل الله } وتقديره : وأرسل إليكم رسولاً ، ويكون حذفه إيجازاً إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم { مبينات } بفتح الياء . وقرأه الباقون بكسرها ومَآل القراءتين واحد .
وجعلت علة إنزال الذكر إخراجَ المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات ، نظراً لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماماً بشأنهم .
وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر . وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف .
{ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رزقا } .
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات .
و{ صالحاً } نعت لموصوف محذوف دل عليه { يعمل } أي عملاً صالحاً ، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي . فالمعنى : ويعمل جميع الصالحات ، أي المأمور بها أمراً جازماً بقرينة استقراء أدلة الشريعة .
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن .
وجملة { قد أحسن الله له رزقاً } حال من الضمير المنصوب في { ندخله } ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها .
والرزق : كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم ، أي رزقاً عظيماً .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر { ندخله } بنون العظمة . وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { ومن يؤمن بالله } وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات .