وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ . . } .
قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان أن القتل فى سبيل الله الذى يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر ، بل هو أجل المطالب وأسناها ، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر ، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه . ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه .
فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة ، وتحريض للمؤمنين على القتال ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هى أن الاستشهاد فى سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء .
والخطاب فى قوله " ولا تحسبن " للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .
والحسبان : الظن ، والنهى بلا هنا منصب على هذا الظن ، أى أنهاكم عن أن تظنوا أنهم أموات ، ونون التوكيد فى قوله " ولا تحسبن " لتأكيد هذا النهى .
أى : لا تحسبن أيها الرسول الكريم ، أو أيها المؤمن أن الذين قتلوا فى سبيل الله ، من أجل إعلان كلمته ، لا تحسبنهم أمواتا لا يحسون شيئاً ولا يتلذون ولا يتنعمون ، بل هم أحياء عند ربهم ، يرزقون رز الأحياء ، ويتنعمون بألوان النعم التى أسبغها الله عليهم ، جزاء إخلاصهم وجهادهم وبذلهم أنفسهم فى سبيل الله .
وقوله { الذين } مفعول أول لقوله : { تَحْسَبَنَّ } وقوله { أَمْوَاتاً } مفعوله الثانى وقوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى بل هم أحياء .
وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } يصح أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو ظرفا له لأن المعنى : يحيون عند ربهم .
والمراد بالعندية هنا المجاز عن القرب والإكرام والتشريف ، أى هم أحياء مقربون عنده ، فقد خصهم بالمنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، وليس المراد بها القرب المكانى لاستحالة ذلك فى حق الله - تعالى - .
وقوله { يُرْزَقُونَ } صفة لقوله { أَحْيَاءٌ } أو حال من الضمير فيه أى يحيون مرزوقين .
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تصرح بأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت فى شهداء أحد ، ويدخل فى حكمهم كل شهيد فى سبيل الله ، ومن هذه الأحدايث ما أرخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا يزهدوا فى الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله - تعالى - : " أنا أبلغهم عنكم . قال : فأنزل الله هؤلاء الآيات { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . إلخ الآيات " .
وأخرج الترمذى وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا جابر مالى أراك منكساً مهتما " ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبى - فى أحد - وترك عيالا وعليه دين . فقال : ألا أبشرك بما لقى الله - عز وجل - به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً - أى مواجهة ليس بينهما حجاب - وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب ، فقال له يا عبدى تمن أعطك . قال يا رب فردنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال الرب - تعالى - إنه قد سبق منى أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائى فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . الآية " .
قال القرطبى - بعد أن ساق هذين الحديثين وغيرهما - ما ملخصه : " فقد أخبر الله - تعالى - فى هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء فى الجنة يرزقون . والذى عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققه . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح فى قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذبون . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم فى حكم الله مستحقون للتنعم فى الجنة . وقال آخرون أرواحهم فى أجواف طير خضر وأنهم يزرقون فى الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس - الذى سقناه قبل قليل - نص يرفع الخلاف " .
والذى تطمئن إليه النفس : أن الآية الكريمة تنبه على أن للشهداء مزية خاصة تجعلهم يفضلون الموتى المعروفين لدى الناس ، وهى أنهم فى حياة سارة ، ونعيم لذيذ ، ورزق حسن عند ربهم . وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم : أموات ، وإن كان المعنى اللغوى للموت - بمعنى مفارقة الروح للجسد فى ظاهر الأمر - حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى .
إلا أن الحياة البرزخية التى أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله - تعالى - ولا ندرك حقيقتها ، إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى ، فقد قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى ولكن لا تحسون وال تدركون حال هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله بمشاعركم وحواسكم ، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعمل بها إلا بالوحى .
وبعد أن تستريح القلوب ، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون ، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور ، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير . . ثم على حقيقة الأجل المكتوب ، والموت المقدور ، الذي لا يؤجله قعود ، ولا يقدمه خروج ، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير . .
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى . . حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها . . حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون ؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها ، فهم متأثرون بها ، مؤثرون فيها ، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة ، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح ، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة ، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش ، متوكلة على الله وحده ، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول ، من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) . .
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل ، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) فقال يتحداهم : قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء ، لهم كل خصائص الأحياء . فهم " يرزقون " عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء : من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث ، فوق ما نالهم من فضل الله ، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين ، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها ، وهي موصولة لا تنقطع ؛ فليس الموت خاتمة المطاف ؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة والموت ، وتصورهم لما هنا وما هناك .
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله ، وفارقوا هذه الحياة ، وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم " أحياء " . . " عند ربهم " . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات ، وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم " يرزقون " . .
ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء ، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة ، وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ؛ وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا ، يقتلون ، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم : قتلوا في سبيل الله ؛ وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ؛ واتصلت أرواحهم بالله ، فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك ، فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق ، أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك ، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده ، وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . .
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عُمَر بن يونس ، عن عِكْرِمة ، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين{[6119]} أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين . وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري ، فخرج أولئك النَّفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتَوْا{[6120]} غارا مُشْرِفا على الماء فقعدوا{[6121]} فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ هذا الماء ؟ فقال - أرَاه ابن ملْحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخَرَج حتى أتى حيا{[6122]} [ منهم ] {[6123]} فاختبأ أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر مَعُونة ، إني رسولُ رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رَجُل من كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر . فقال : الله أكبر ، فُزْتُ ورب الكعبة . فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن الطفيل . وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك : أن الله [ تعالى ]{[6124]} أنزل فيهم قرآنا : بَلِّغُوا عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زَمَنًا{[6125]} وأنزل الله : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }{[6126]} .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمَشُ ، عن عبد الله بن مُرَّةَ ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال : أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : " أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ{[6127]} حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ{[6128]} يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا : يَا رَبِّ ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا " {[6129]} . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ " .
انفرد{[6130]} به مسلم من طريق حماد{[6131]} {[6132]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا سفيان ، عَن{[6133]} محمد بن علي بن رَبيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أما عَلِمْتَ{[6134]} أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ : تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ : أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا ، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَقَالَ : إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ " .
انفرد{[6135]} به أحمد من هذا الوجه{[6136]} وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر - وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه - قتل يوم أحد شهيدا . قال البخاري : وقال أبو الوليد ، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال : سمعت جابرا قال : لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني{[6137]} والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَبْكِهِ {[6138]} - أو : مَا تَبْكِيهِ{[6139]} - ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ " . وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر{[6140]} عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتلَ أبي يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي . . . وذكر تمامه بنحوه{[6141]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا أُصِيبَ{[6142]} إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ، وَمَأْكَلِهِمْ ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم{[6143]} قَالُوا : يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا ، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ " فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ . فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها " .
هكذا رواه [ الإمام ]{[6144]} أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن إسماعيل بن عَيَّاش{[6145]} عن محمد بن إسحاق به{[6146]} ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فذكره ، وهذا أثبت{[6147]} . وكذا رواه سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان{[6148]} عن إسماعيل{[6149]} بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6150]} .
وكذا قال قتادة ، والربيع ، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن سليمان{[6151]} أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " يا جابر ، مَا لِي أراك مُهْتَما ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي وترك{[6152]} دَينا وعيالا . قال : فقال : " ألا أُخْبِرُكَ ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا - قال علي : الكفَاح : المواجهة - فَقَالَ : سَلْني أعْطكَ . قَالَ : أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ . قَالَ : أيْ رَبِّ : فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي . فَأَنزلَ اللهُ [ عَزَّ وجَلَّ ]{[6153]} { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } الآية{[6154]} .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري ، عن أبيه ، عن جابر ، به نحوه . وكذا رواه البيهقي في " دلائل النبوة " من طريق علي بن المديني ، به{[6155]} .
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري ، وهو عيسى بن عبد الرحمن ، إن شاء الله ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[6156]} قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر : " يَا جَابِرُ ، ألا أُبَشِّرُكَ ؟ قال : بلى . بشّرك الله بالخير . قال{[6157]} شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ : تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه . قَالَ : يَا رَبِّ ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ . أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ{[6158]} مَعَ نَبِيَّكَ ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى . قَالَ : إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [ لا ]{[6159]} يَرْجعُ " {[6160]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا " .
تفرد{[6161]} به أحمد ، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعَبَدة{[6162]} عن محمد بن إسحاق ، به . وهو إسناد جيد{[6163]} .
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح{[6164]} أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ؛ فإن الإمام أحمد ، رحمه الله ، رواه عن [ الإمام ]{[6165]} محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق{[6166]} في شَجِر الجَنَّةِ ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ " {[6167]} .
قوله : " يعلق " {[6168]} أي : يأكل{[6169]} .
وفي هذا الحديث : " إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ " .
وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب{[6170]} بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا{[6171]} على الإيمان .
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد . وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا . والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة . وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين . { بل أحياء } أي بل هم أحياء . وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه . { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء .
وقرأ جمهور القراء : «ولا تحسبن » بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام ، وقرأ حميد بن قيس ، «ولا يحسبن » بالياء على ذكر الغائب ، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر : ولا يحسبن أحد أو حاسب ، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى : ولا يحسب الناس ، ويحسبن ، معناه يظن ، وقرأ الحسن : «الذين قتّلوا » ، بشد التاء ، وابن عامر من السبعة ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «الذين قاتلوا » بألف بين القاف والتاء ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء : أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم ، قال الحسن بن أبي الحسن : ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله ، فقوله : { بل أحياء } مقدمة قوله : { يرزقون } إذ لا يرزق إلا الحي ، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً : بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل ، وقرأ جمهور الناس : «بل أحياءٌ » بالرفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «بل أحياءً » بالنصب ، قال الزجّاج : ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء ، قال أبو علي في الأغفال : ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة .
قال القاضي : فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر ، وقوله { عند ربهم } فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن { عند } تقتضي غاية القرب ، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً{[3704]} ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ) {[3705]} .
قال القاضي رحمه الله : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة ، يجمعها أنهم يرزقون ، وقال عليه السلام : ، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء ، والحديث معناه في الشهداء خاصة ، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء ، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها ، وأيضاً فإنها لا ترزق ، وتعلق معناه : تصيب العلقة من الطعام ، وفتح اللام هو من التعلق ، وقد رواه الفراء في إصابة العلقة ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول : يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا ، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء ، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى ، فيقول تعالى : قد سبق أنكم لا تردون »{[3707]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : «ألا أبشرك يا جابر ؟ » قال جابر : قلت بلى يا رسول الله ، قال : «إن أباك حيث أصيب - بأحد - أحياه الله ، ثم قال : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى »{[3708]} ، وقال قتادة رحمه الله : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا -بأحد- فنزلت هذه الآية{[3709]} وقال محمد بن قيس بن مخرمة{[3710]} في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تعالى : أنا رسولكم ، فنزل جبريل بهذه الآيات ){[3711]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى ، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني{[3712]} وقوله تعالى : { فرحين } نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور ، و «الفضل » في هذه الآية : التنعيم المذكور .
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن .
والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قُتِلوا بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً .
وقوله : { بل أحياء } للإضراب عن قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة بالرفع ، وقرىء بالنصب على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله : { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق .