ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا النصر والثمرات التى ترتبت عليه فقال - تعالى - : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وقوله { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } وما بينهما تحقيق لحقيته ، وبيان لكيفية وقوعه .
والقطع - كما يقول الراغب - فصل الشىء مدركا بالبصر كالأجسام ، أو مدركا بالبصيرة كالأشياء المعقولة والمراد به هنا الإهلاك والقتل .
والطرف - بفتح الراء - جانب الشىء أو الجزء المتطرف منه كاليدين والرجلين والرأس .
والمراد به هنا طائفة من المشركين .
والكبت فى اللغة : صرع الشىء على وجهه . يقال : كبته فانكبت ، والمراد به هنا الإخزاء والإذلال وشدة الغيظ بسبب ما أصابهم من هزيمة .
وخائبين من الخيبة وهى انقطاع الأمل فى الحصول على الشىء . يقال : خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب .
والمعنى : ولقد نصركم الله - تعالى - ببدر وأنتم فى قلة من العدد والعدة { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا } أى ليهلك طائفة من الذين كفروا ويستأصلهم بالقتل . وينقص من أرضهم بالفتح ، ومن سلطانهم بالقهر ، ومن أموالهم بالغنيمة { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أى يذلهم ويخزيهم ويغيظهم غيظا شديدا بسبب ما نزل بهم من هزيمة ، حتى يخبو صوت الكفر ، ويعلو صوت الإيمان :
وقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أى فينهزموا ويرتدوا على أدبارهم منقطعى الآمال ، غير ظافرين بمبتغاهم .
قال الآلوسى : " ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف فقال { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } لأن أطراف الشىء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته . وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } وقيل للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ، ومنه قولهم : هو من أطراف العرب أى من أشرافهم ، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم فى السير . . فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بالقتل والأسر . وقد وقع ذلك فى بدر فقد قتل المؤمنون من المشركين سبعين وأسروا سبعين " .
و { أَوْ } فى قوله { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } للتنويع . لأن القطع والكبت قد وقعا للمشركين ، فهى مانعة خلو ، أى لا يخلو أمر الكافرين من الهلاك والكبت .
وعبر عن عودتهم خائبين بقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } للإشارة إلى أن مقاصدهم وأهدافهم قد انقلبت ، فقد كانوا يقصدون إطفاء نور الإسلام فخاب قصدهم ، وطاش سهمهم ، وعادوا وقد فقدوا الكثيرين من وجوههم وصناديديهم ، وتركوا خلقهم فى الأسر العشرات من رجالهم .
أما الإسلام فقد ازداد نوره تألقا ، وازداد أتباعه إيمانا على إيمانهم . ورزقهم الله - تعالى - نصره المبين .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول [ ص ] ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه ، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ؛ ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله ، وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا ) . .
فينقص من عددهم بالقتل ، أو ينقص من أرضهم بالفتح ، أو ينقص من سلطانهم بالقهر ، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة ، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
( أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ) . .
ثم قال{[5649]} تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أمركم بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين . فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليهلك أمة { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا ؛ ولهذا قال : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا } أي : يرجعوا { خَائِبِينَ } أي : لم يحصلوا على ما أمَّلُوا .
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا } متعلق بنصركم ، أو { وما النصر } إن كان اللام فيه للعهد ، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم . { أو يكبتهم } أو يخزيهم ، والكبت شدة الغيظ ، أو وهن يقع في القلب ، وأو للتنويع دون الترديد { فينقلبوا خائبين } فينهزموا منقطعي الأمال .
واللام في قوله تعالى : { ليقطع } متعلقة بقوله { وما النصر إلا من عند الله } وعلى هذا لا يكون قطع الطرف مختصاً بيوم ، اللهم إلا أن تكون الألف واللام في «النصر » للعهد ، وقيل : العامل في «ولقد نصركم » حكاه ابن فورك وهو قلق ، لأنه قوله : { أو يكبتهم } لا يترتب عليه ، وقد يحتمل أن تكون اللام في قوله { ليقطع } متعلقة ب { جعله } ، فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر ، على ما قال الحسن وابن إسحاق وغيرهم ، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السدي ، وقتل من المشركين ببدر سبعون ، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلاً ، وقال السدي : قتل منهم ثمانية عشرة والأول أصح ، و «الطرف » الفريق ، ومتى قتل المسلمون كفاراً في حرب فقد قطعوا { طرفاً } ، لأنه الذي وليهم من الكفار فكأن جميع الكفار رقعة وهؤلاء المقتولون طرف منها أي حاشية ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { ليقطع طرفاً } بمنزلة ليقطع دابراً وقوله : { أو يكبتهم } معناه : أو يخزيهم ، والكبت الصرع لليدين ، وقال النقاش وغيره : التاء بدل من دال كبته أصله كبده أي فعل به يؤذي كبده ، وإذا نصر الله على أمة كافرة فلا بد من أحد هذين الوجهين ، إما أن يقتل منهم واما ان يخيبوا ، فذلك نوع من الهزم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.