ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التى تذرع بها المشركون تعنتا ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم ، وبما يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ . . . } .
و { لَوْلاَ } هنا تحضيضية بمعنى هلا ، والمعنى : وقال أولئك الكافرون : هلا نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار ، وفلق البحر ، ونزول الملائكة معك . . . إلخ .
فهذه الآيات الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبى صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء السابقين .
وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، حتى لكأنه لم ينزل عليه شىء عنادا وجحودا منهم .
وفى قولهم - كما حكى القرآن عنهم - { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب ، للإشارة إلى أنهم لا يوجهون الطلب إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإنما يوجهونه إلى الله تعالى ، لأنه إذا كان رسولا من عنده ، فليجب له هذا الطلب الذى نتمناه ونكون من بعده مؤمنين .
وقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
أى : قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله - تعالى - قادر على تنزيل ما اقترحوا من آيات ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء ، ولكنه - سبحانه - ينزل ما تقتضيه حكمته ، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئاً من حكم الله فى أفعاله ، ولا من سننه فى خلقه .
وقوله - تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التى اقترحوها ، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص فى الدليل ولكنه عن تكبر وجحود .
ومن خطاب رسول الله [ ص ] بهذه الحقيقة ، ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة ، وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة الله ، ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الإقتراج الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه ! ويعرض جانبا من دقة التدبير الإلهي وإحاطته بالأحياء جميعا ، يوحي بحكمة السنة الشاملة للأحياء جميعا . وينتهي بتقرير ما وراء الهدى والضلال من أسرار وسنن تجري بها مشيئة الله طليقة .
( وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله قادر على أن ينزل آية ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ثم إلى ربهم يحشرون . والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) . .
لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة ، ولا يقنعون بآية القرآن الباقية ، التي تخاطب الإدراك البشري الراشد ، وتعلن عهد الرشد الإنساني ، وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي ؛ والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية ؛ بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة . .
وكانوا يطلبون خارقة ، ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة ، وإهلاكهم في الدنيا . ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة ، وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها - كما وقع في الأقوام قبلهم - فيحق عليهم الهلاك ، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن . فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة . ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم ، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم ، الذي لا يعلمون جرائره !
والقرآن يذكر اقتراحهم هذا ، ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمه الله في عدم الاستجابة ، ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية ، ولكن حكمته هي التي تقتضي ، ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء : 7 ( وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه ! قل : إن الله قادر على أن ينزل أية . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين أنهم كانوا يقولون : { لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أي : خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ، ومما يتعنتون كما قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات [ الإسراء : 90 ] .
{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : هو تعالى قادر على ذلك ، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك ؛ لأنه لو أنزلها{[10668]} وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة ، كما فعل بالأمم السالفة ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] .
{ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } أي آية بما اقترحوه ، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا . { قل إن الله قادر على أن ينزل آية } مما اقترحوه ، أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل ، أو آية إن جحدوها هلكوا . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله قادر على إنزالها ، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء ، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره . وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى واحد .
والضمير في { قالوا } عائد على الكفار ، و { لولا } تحضيض بمعنى : هلا ، قال الشاعر [ جرير ] : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النّيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ . . . بَنِي ضَوْطرى لولا الكميّ المقنَّعا{[4905]}
ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد ، كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا ، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآية ، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعولجوا بالعذاب ، ويحتمل { ولكن أكثرهم لا يعلمون } إن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون .