ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه التسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - تسلية أخرى فقال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً . . . } ومفعول المشيئة محذوف والتقدير :
ولو شاء ربك - يا محمد - إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد ، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، لأنه مخالف للحكة التي عليها أساس التكوين والتشريع ، والإِثابة والمعاقبة ، فقد اقتضت حكمته - سبحانه - أن يخلق الكفر والإِيمان ، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإِيمان ، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره ، ومن آمن فله ثواب إيمانه .
والهمزة في قوله - سبحانه - { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } للاستفهام الإِنكارى ، والفاء للتفريع .
والمراد بالناس : المصرين على كفرهم وعنادهم .
والمعنى : تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنقاذها لنفذناها ، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكهر الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإِيمان ؟
لا ، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا ، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه .
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفع لما يضيق به صدره ، من إعراض بعض الناس عن دعوته .
ومن ثم ترد القاعدة الكلية في الكفر والإيمان :
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ? وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) . .
ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى ، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً . أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان .
ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعاً وقهرهم عليه ، حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره .
ولكن حكمة الخالق التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك ، دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها . هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر وللهدى والضلال . ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك . وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية من حواس ومشاعر ومدارك ، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس وما يجيء به الرسل من آيات وبينات ، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص . وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه ، ويستغلق عقله ، وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود ، فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء . .
فالإيمان إذن متروك للاختيار . لا يكره الرسول عليه أحداً . لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير :
يقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ } - يا محمد - لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به ، فآمنوا كلّهم ، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 118 ، 119 ] ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } [ الرعد : 31 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } أي : تلزمهم وتلجئهم { حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، بل [ إلى ]{[14435]} الله { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] ، { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ } [ الغاشية : 21 ، 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد ، الهادي من يشاء ، المضل لمن يشاء ، لعلمه وحكمته وعدله ؛ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } {[14436]} وهو الخبال{[14437]} والضلال ، { عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } أي : حججَ الله وأدلته ، وهو العادل في كل ذلك ، في هداية من هدى ، وإضلال من ضل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكر لنبيه : وَلَوْ شاءَ يا محمد رَبّكَ لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا بك ، فصدّقوك أنك لي رسول وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له حقّ ، ولكن لا يشاء ذلك لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولاً أنه لا يؤمن بك ولا يتبعك فيصدّقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأوّل قبل أن يخلق السماوات والأرض وما فيهنّ ، وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ شاءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا وَما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤْمِنَ إلاّ بإذْنِ اللّهِ ونحو هذا في القرآن ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأوّل ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأوّل .
فإن قال قائل : فما وجه قوله : لاَمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا ؟ فالكلّ يدل على الجميع ، والجميع على الكلّ ، فما وجه تكرار ذلك وكلّ واحدة منهما تغنى عن الأخرى ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي أهل البصرة : جاء بقوله «جميعا » في هذا الموضع توكيدا كما قال : لا تَتّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ففي قوله : «إلهين » دليل على الاثنين . وقال غيره : جاء بقوله «جميعا » بعد «كلهم » ، لأن «جميعا » لا تقع إلا توكيدا ، و «كلهم » يقع توكيدا واسما فلذلك جاء ب «جميعا » بعد «كلهم » . قال : ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد لجاز ههنا . قال : وكذلك : إلَهيْنِ اثْنَيْنِ العدد كله يفسر به ، فيقال : رأيت قوما أربعة ، فما جاء باثنين وقد اكتفى بالعدد منه لأنهم يقولون : عندي درهم ودرهمان ، فيكفي من قولهم : عندي درهم واحد ودرهمان اثنان ، فإذا قالوا دراهم قالوا ثلاثة ، لأن الجمع يلتبس والواحد والاثنان لا يلتبسان ، لم يثن الواحد والتثنية على تنافي في الجمع ، لأنه ينبغي أن يكون مع كلّ واحد واحد ، لأن درهما يدلّ على الجنس الذي هو منه ، وواحد يدلّ على كلّ الأجناس ، وكذلك اثنان يدلان على كل الأجناس ، ودرهمان يدلان على أنفسهما ، فلذلك جاء بالأعداد لأنه الأصل .
وقوله : أفأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حتى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنه لن يصدقك يا محمد ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك ، لا بإكراهك إياه ولا بحرصك على ذلك ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين لك مصدّقين على ما جئتهم به من عند ربك ؟ يقول له جلّ ثناؤه : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ والّذِيَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ أنّهم لا يُؤْمِنُونَ .
عطف على جملة { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون } [ يونس : 97 ] لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه . وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس . وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها ، وهي جملة : { أفأنت تكره } المفرعة على الجملة الأولى ، وهي المقصود من التسلية .
والناس : العرب ، أو أهل مكة منهم ، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ نوح } [ يونس : 71 ] .
والتأكيد ب { كلهم } للتنصيص على العموم المستفاد من ( مَن ) الموصولة فإنها للعموم ، والتأكيد ب { جميعاً } لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي .
والمعنى : لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير ، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح .
و ( لو ) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها . فالمعنى : لكنه لم يشأ ذلك ، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان ، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق .
وجملة : { أفأنت تكره الناس } الخ مفرّعة على التي قبلها ، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعاً .
والاستفهام في { أفأنت تُكره الناس } إنكاري ، فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه .
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي ، فقيل : { أفأنت تُكره الناس } دون أن يقال : أفتكره الناس ، أو أفأنت مُكره الناس ، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار . وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه ، ومَن بلغ المجهود حق له العذر .
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيداً للتخصيص ، أي القصر ، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر ، إذ مجرد تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه . فما وقع في « الكشاف » من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه ، لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكر لنبيه:"وَلَوْ شاءَ" يا محمد "رَبّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعا "بك، فصدّقوك أنك لي رسول وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له حقّ، ولكن لا يشاء ذلك لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولاً أنه لا يؤمن بك ولا يتبعك فيصدّقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأوّل قبل أن يخلق السماوات والأرض وما فيهنّ، وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق...
وقوله: "أفأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حتى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك، لا بإكراهك إياه ولا بحرصك على ذلك، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" لك مصدّقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جلّ ثناؤه: "فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" الّذِين حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ أنّهم لا يُؤْمِنُونَ.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... ومعناه أنه لا ينبغي أن يريد إكراههم لأن الله عز وجل يقدر عليه ولا يريده، لأنه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) والتخفيف عنه مما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أنى لو أردت لأكرهتهم على الإيمان، ولم أرد، فلا ترد أنت -أيضا- أن تكرههم على الإيمان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} مشيئة القسر والإلجاء {لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ} على وجه الإحاطة والشمول {جَمِيعاً} على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، وللإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكرِه من هو؟ وما هو إلاّ هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطّرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك، فالأمر محتوم، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك، والله عز وجل قد شاء غيره.
والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد، والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} أي لو شاء ربك أيها الرسول الحريص على إيمان الناس أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لا يشذ أحد منهم لآمنوا، بأن يلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ويوجره في قلوبهم إيجارا، ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة، لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان، وفي معنى هذا قوله تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] وقوله: {ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 118]، والمعنى الجامع في هذه الآيات أنه لو شاء الله ألا يخلق هذا النوع المسمى بالإنسان المستعد بفطرته للإيمان والكفر، والخير والشر، الذي يرجح أحد الأمور الممكنة المستطاعة له على ما يقابله ويخالفه بإرادته واختياره، لفعل ذلك، ولما وجد الإنسان في الأرض، ولكن اقتضت حكمته أن يخلق هذا النوع العجيب ويجعله خليفة في الأرض، كما تقدم بيانه في قصة آدم في سورة البقرة وفي آيات أخرى، هكذا خلق الله الإنسان منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به كما تقدم.
{أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إن هذا ليس في استطاعتك أيها الرسول، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] {وما أنت عليهم بجبار} [ق: 45] وهذه أول آية نزلت في أن الدين لا يكون بالإكراه، أي لا يمكن للبشر ولا يستطاع، ثم نزل عند التنفيذ {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، أي لا يجوز ولا يصح به، وذكرنا في تفسيرها سبب نزولها، وهو عزم بعض المسلمين على منع أولادهم كانوا تهودوا من الجلاء مع بني النضير من الحجاز، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخيروهم، وأجمع علماء المسلين على أن إيمان المكره باطل لا يصح. لكن نصارى الإفرنج ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام و يخيرونهم بينه وبين السيف يقط رقابهم، على حد المثل "رمتني بدائها وانسلت".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالإيمان إذن متروك للاختيار، لا يكره الرسول عليه أحداً، لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فالفكر لا يخضع لكل أدوات الضغط، لأنه يعيش حريته من موقع تكوينه الحرّ، ولذلك فلا بد من التأمّل والتفكير ليعرف الإنسان ماذا يأخذ وماذا يدع من ذلك كله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لا خير في الإِيمان الإِجباري: لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإِيمان الاضطراري لا يجدي نفعاً أبداً، ولهذا فإِنّ الآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إِيمان جماعة من هؤلاء، فإِنّ من مستلزمات أصل حرية الإِرادة والاختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون، وإِذا كان الأمر كذلك (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟ إِنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أُخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإِسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إِنّ الإِسلام دين السيف، وقد فرض بالقوّة والإِجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية ككثير من آيات القرآن الأُخرى بأنّ الإِيمان الإِجباري لا قيمة له، والدين والإِيمان شيء ينبع عادة من أعماق الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصّة وأنّها حذرت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إِكراه وإِجبار الناس على الإِيمان والإِسلام...