وقوله - تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } تأكيد لوحدانيته وقدرته - سبحانه - أى : لا يسأله سائل - سبحانه - عما يفعله بعباده من إعزاز وإذلال . وهداية وإضلال ، وغنى وفقر ، وصحة ومرض ، وإسعاد وإشقاء . . . لأنه هو الرب المالك المتصرف فى شئون خلقه ، وهم يسألون يوم القيامة عن أعمالهم وأقوالهم لأنهم عبيده ، وقد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فمنهم من اتبع الرسل فسعد وفاز ، ومنهم من استحب العمى على الهدى فشقى وهلك .
( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) . .
ومتى كان المسيطر على الوجود كله يسأل ؛ ومن ذا الذي يسأله ؛ وهو القاهر فوق عباده ، وإرادته طليقة لا يحدها قيد من إرادة أخرى ، ولا حتى من الناموس الذي ترتضيه هي وتتخذه حاكما لنظام الوجود ? والسؤال والحساب إنما يكونان بناء على حدود ترسم ومقياس يوضع . والإرادة الطليقة هي التي تضع الحدود والمقاييس ، ولا تتقيد بما تضع للكون من الحدود والمقاييس إلا كما تريد . والخلق مأخوذون بما تضع لهم من تلك الحدود فهم يسألون .
وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب : ولماذا صنع الله كذا . وما الحكمة في هذا الصنيع ? وكأنما يريدون ليقولوا : إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع !
وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود ، كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود . .
إن الذي يعلم كل شيء ، ويدبر كل شيء ، ويسيطر على كل شيء ، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم . ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) . .
وقوله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه ، { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : وهو سائل خلقه عما يعملون ، كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لا سائل يسأل ربّ العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال وغير ذلك من حكمه فيهم لأنهم خلقه وعبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له لم فعلت ؟ ولمَ لم تفعل ؟ وَهُمْ يُسْئَلُونَ يقول جلّ ثناؤه : وجميع من في السموات والأرض من عباده مسؤولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ يقول : لا يسئل عما يفعل بعباده ، وهم يُسئلون عن أعمالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال : لا يسئل الخالق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْئَلُونَقال : لا يسئل الخالق عما يقضي في خلقه ، والخلق مسؤولون عن أعمالهم .
ثم وصف نفسه تعالى بأنه { لا يسأل عما يفعل } وهذا وصف يحتمل معنيين : إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء ، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض ، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير{[8205]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.