التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من تمنى الشهادة فى سبيله فقال { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } .

قال ابن جرير ما ملخصه : كان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهدوا بدراً ، يتمنون قبل يوم أحد يوما مثل يوم بدر ، فيعطون الله من أنفسهم خيرا ، وينالون من الأجر مثل ما نال أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ، فر بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله عليه قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم بقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } . . . الآية .

والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين لم يفوزوا بالشهادة فى غزوة أحد ، وهو خطاب يجمع بين الموعظة والملام .

والمراد بالموت هنا الشهادة فى سبيل الله ، أو الحرب والقتال لأنهما يؤديان إلى الموت .

والمعنى : ولقد كنتم - يا معشر المؤمنين - { تَمَنَّوْنَ الموت } ، أى الحرب أو الشهادة فى سبيل الله { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أى تشاهدوه وتعرفوا أهواله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أى فقد رأيتم ما تتمنونه من الموت بمشاهدة أسبابه وهى الحرب وما يترتب عليها من جراح وآلام وقتال { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أنتم أيها الأحياء أن تقتلوا .

{ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلق بقوله { تَمَنَّوْنَ } مبين لسبب إقدامهم على التمنى . أى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا مصاعبه .

ففى الجملة الكريمة تعريض بأنهم تمنوا أمرا دون أن يقدروا شدته عليهم ، ودون أن يوطنوا أنفسهم على تحمل مشقاته وتبعاته .

والفاء فى قوله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } للإفصاح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام . والتقدير : إذا كنتم قد تمنيتم الموت فقد وقع ما تمنيتموه ورأيتموه رأى العين ، فأين بلاؤكم وصبركم وثباتكم ؟ .

وقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية من ضمير المخاطبين مؤكدة لمعنى رأيتموه . أى رأيتموه معاينين له ، وهذا على حد قولك : رأيته وليس فى عينى علة ، أى رأيته رؤية حقيقة لا خفاء ولا التباس .

والتعبير بالمضارع { تَنظُرُونَ } يفيد التصوير . وإحضار الصورة الواقعة فى الماضي كأنها واقعة فى الحاضر ، فيستحضرها العقل كما وقعت ، وكما ظهرت فى الوجود .

والنظر الذى قرره الله - تعالى - بقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يتضمن النظر إلى الموقعة كلها ، وكيف كان النصر فى أول الأمر للمسلمين ، ثم كيف كانت الهزيمة بعد ذلك بسبب تطلع بعضهم إلى أعراض الدنيا . ثم كيف تفرقت صفوفهم بعد اجتماعها وكيف تضعضعت بعض العزائم بعد مضائها وقوتها .

ولقد حكت الآية الكريمة أن المسلمين كانوا يتمنون الموت فى معركة ، وليس فى ذلك من بأس ، بل إن هذا هو شعار المؤمن الصادق ، لأن المؤمن الصادق هو الذى يتمنى الشهادة فى سبيل الله ومن أجل نصرة دينه ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوددت أنى اقتل فى سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل " .

وقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - " اللهم إنى أسألك شهادة فى سبيلك " . ولكن الذى يكرهه الإسلام هو أن يتمنى المسلم الشهادة ثم لا يفى بما تمناه ، بمعنى أن يفر من الميدان أو يفعل ما من شأنه أن يتنافى مع الجهاد الحق فى سبيل الله .

ولذا قال الآلوسى : " والمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة ، وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم " .

فالآية الكريمة تعظ المؤمنين بأن لا يتمنوا أمرا حتى يفكروا فى عواقبه ، ويعدوا أنفسهم له ، ويلتزموا الوفاء بما تمنوه عند تحققه ، ولقد رسم النبى صلى الله عليه وسلم الطريق القويم الذى يجب أن يسلكه المسلم في حياته فقال فى حديثه الصحيح :

" أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية . فإذا لقيتموهم فاصبروا . واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت المؤمنين بأن يعتبروا بأحوال من سبقهم ، وأن يتجنبوا ما كان عليه المكذبون من ضلال وعصيان وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل المصائب والآلام فإن العاقبة لهم ، وأن يعملوا أن الحياة لا تخلو من نصر وهزيمة ، وسراء وضراء حتى يتميز الخبيث من الطيب ، وأن يعرفوا أن الطريق إلى الجنة يحتاج إلى إيمان عميق ، وصبر طويل ، وجهاد شديد ، واستجابة كاملة لتعاليم الإسلام وآدابه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

121

( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . .

وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم ، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية ، والجهاد الحقيقي ، والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !

ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى ، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين ، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .

ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة ، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ؛ وبكل شهواتها ونزواتها ؛ وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ، ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .

وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ، الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب " الإنسان " الذي استخلفه في هذا الملك العريض !

وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ، بشتى الأسباب والوسائل ، وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ، فتستبشر ، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر ، وتصبر على نشوته ، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء ، وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله ، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية ، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل ، بما عندها من الحق المجرد ؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ، ومداخل شهواتها ، ومزالق أقدامها ؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .

وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .

/خ179

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

وقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي : قد كنتم - أيها المؤمنون - قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونَكم فقاتلوا وصابروا .

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَمَنَّوْا{[5775]} لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ " {[5776]} .

ولهذا قال : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : الموت شاهدتموه{[5777]} في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح ، وصفوف الرجال للقتال .

والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس{[5778]} كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب .


[5775]:في هـ: "تتمنوا"، والمثبت من جـ، ر، ومسلم.
[5776]:صحيح البخاري معلقا برقم (3021) وصحيح مسلم برقم (1741).
[5777]:في و: "يعني شاهدوه".
[5778]:في جـ: "في المحسوس"، وفي ر، أ، و: "من المحسوس".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ } : ولقد كنتم يا معشر أصحاب محمد تمنون الموت يعني أسباب الموت وذلك القتال¹ { فقدْ رَأيتموه } فقد رأيتم ما كنتم تمنونه . والهاء في قوله «رأيتموه » ، عائدة على الموت ، ومعنى : { وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } يعني : قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر : أي بقرب منكم . وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل : { وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } على وجه التوكيد للكلام ، كما يقال : رأيته عيانا ، ورأيته بعيني ، وسمعته بأذني¹ وإنما قيل : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرا ، كانوا يتمنون قبل أُحد يوما مثل يوم بدر ، فيِبلوا الله من أنفسهم خيرا ، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر¹ فلما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك ، فعاتب الله من فرّ منهم ، فقال : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } . . . الاَية ، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم . ذكر الأخبار بما ذكرنا من ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : غاب رجال عن بدر ، فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه ، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر . فلما كان يوم أُحد ولى من ولى ، فعاتبهم الله أو فعابهم ، أو فعتبهم على ذلك ، شك أبو عاصم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه ، إلا أنه قال : فعاتبهم الله على ذلك ، ولم يشكّ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنُتمْ تَنْظُرُونَ } : أناس من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والأجر ، فكانوا يتمنون أن يرزقوا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أُحد ، فقال الله عزّ وجلّ كما تسمعون : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ } حتى بلغ : { الشّاكِرِينَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } قال : كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم ، فلما لقوهم يوم أُحد ولّوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : إن أناسا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال ، حتى كان بناحية المدينة يوم أُحد ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ } . . . الاَية .

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ ! فابتلوا بذلك ، فلا والله ما كلهم صدق ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشهدوا بدرا ، فلما رأوا فضيلة أهل بدر ، قالوا : اللهمّ إنا نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر ، نبليك فيه خيرا ! فرأوا أُحدا ، فقال لهم : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقدْ رأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رأيتُمُوهُ وأنتُمْ تَنْظُرُونَ } : أي لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحقّ قبل أن تلقوا عدوكم ، يعني الذين حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوّهم لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر ، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به يقول : { فقدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ } : أي الموت بالسيوف في أيدي الرجال ، قد حلّ بينكم وبينهم ، وأنتم تنظرون إليهم ، فصددتم عنهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

{ ولقد كنتم تمنون الموت } أي الحرب فإنها من أسباب الموت ، أو الموت بالشهادة . والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج . { من قبل أن تلقوه } من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته . { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم ، وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها ، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعاً بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية .

والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الَّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : { كنتم تمنّون الموت } أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظراً لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه .

وقوله : { من قبل أن تلقوه } تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .

وقوله : { فقد رأيتموه } أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : { فقد رأيتموه } تمثيلاً ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :

وشممتُ ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد

وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت .

والفاء في قوله : { فقد رأيتموه } فاء الفصيحة عن قوله : { كنتم تمنون } والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :

قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا

ومنه قوله تعالى : { فقد كذّبوكم بما تقولون } [ الفرقان : 19 ] وقوله في سورة الروم ( 56 ) : { فهذا يوم البعث } .

وجملة { وأنتم تنظرون } حال مؤكّدة لمعنى { رأيتُموه } ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغَناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون . ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه . ومحلّ المعذرة في قوله : { من قبل أن تلقوه } وقوله : { فقد رأيتموه } ومحلّ الملام في قوله : { وأنتم تنظرون } .

ويحتمل أن يكون قوله : { تمنون الموت } بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ) .

كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقْتل " وقال عمر : « اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك » وقال ابن رواحة :

لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفــرة *** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا

حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي *** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا

وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت .