التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى - عليه السلام - وبين قومه بني إسرائيل ، إثر الحديث عن جابر مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال - تعالى - :

{ فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . }

قال الجمل : " قوله - سبحانه - { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ . . . } . لما ذكر الله - تعالى - ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجزات العظيمة الباهرة ، أخبر - سبحانه - أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه . وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه ، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإِيمان به ، واستمرارهم على الكفر والتكذيب ، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . لأن ما جاء به موسى من المعجزات ، كان أمرا عظيما . ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه .

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق ، والتقدير : لقد أتى موسى - عليه السلام - بالمعزات التي تشهد بصدقه ، والتى على رأسها ، أن ألقى عصاه فإذا هي تتبلع ما فعله السحرة ، ومع كل تلك البراهين الدالى على صدقه ، فما آمن به إلا ذرية من قومه .

والمراد بالذرية هنا : العدد القليل من الشباب ، الذين آمنوا بموسى ، بعد أن تخلف عن الإِيمان آباؤهم وأغنياؤهم .

قال الآلوسى : قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } أى : إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا - عليه السلام - الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية : الشبيان لا الأطفال .

والضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود لموسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى :

فما آمن لموسى - عليه السلام - في دعوته إلى وحدانية الله ، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل ، الذين كانوا يعيشون في مصر ، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب ، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم ، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه ، وخوفا من بطشه بهم .

ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود إلى فرعون لا إلى موسى .

فيكون المعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون .

قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى : " يخبر الله - تعالى - أنه لم يؤمن بموسى - عليه السلام - مع ما جاء به الآيات والحجج ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب - ، على وجل وخوف منه ومن ملئه .

قال العوفى عن ابن عباس : " إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم : امرأته ، ومؤمن آل فرعون ، وخازنة ، وامرأة خازنه " .

ثم قال : " واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية ، أنها من بني إسرائيل ، لا من قوم فرعون . لعود الضمير على أقرب مذكور .

وفي هذا نظر ، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى . واستبشروا به ، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به .

وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل ؟ .

والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - أرجح ، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون ، ومنهم زوجته ، وامرأة خازنه .

ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى ، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به ، كقارون والسامرى وغيرهما .

ولأن رجوع الضمير إلى موسى - هو الظاهر المتبادر من الآية ، لأنه أقرب مذكور ، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر .

ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من دعوة الضمير إلى موسى - عليه السلام - ما ملخصه :

وأولى هذه الأقوال عندى بتأويل الآية ، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله { مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .

ولأن في قوله { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها .

وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء في قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون . . "

وقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ . . } حال من كلمة { ذرية } و { على } هنا بمعنى مع . والضمير في قوله { وَمَلَئِهِمْ } يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بني إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى - عليه السلام - .

والمعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى : يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى - عليه السلام .

والضمير في { يفتنهم } يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كنوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء .

وجملة { أَن يَفْتِنَهُمْ } في تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى : على خوف من فرعون فتنته .

وقوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه .

أى : وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغى وادعاء ما ليس له .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

71

ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم ! . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .

( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . وإن فرعون لعال في الأرض . وإنه لمن المسرفين . وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا : على اللّه توكلنا ، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين ) . .

ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار ، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي . وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى ، خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب ، والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل . وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت ، كما كان مسرفاً في الطغيان ، لا يقف عند حد ، ولا يتحرج من إجراء قاس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى ، عليه السلام ، مع ما جاء به من الآيات{[14354]} البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب{[14355]} - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه ، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ ، وكانت{[14356]} له سَطْوة ومَهابة ، تخاف رعيته منه خوفا شديدا .

قال العوفي : عن ابن عباس : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } قال : فإن الذرية التي آمنت لموسى ، من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .

وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل .

وعن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة( الذرية ) : القليل .

وقال مجاهد في قوله : { إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل . قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ، ومات آباؤهم .

واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية : أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون ، لعود الضمير على أقرب المذكورين .

وفي هذا نظر ؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب{[14357]} وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى ، عليه السلام ، واستبشروا به ، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا . ولما جاء موسى آذاهم فرعون{[14358]} أشد الأذى ، و { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل ؟ .

{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي : وأشراف قومهم أن يفتنهم ، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون ، فإنه كان من قوم موسى ، فبغى عليهم ؛ لكنه كان طاويا{[14359]} إلى فرعون ، متصلا به ، متعلقا بحباله{[14360]} ومن قال : إن الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } عائد إلى فرعون ، وعظم الملك{[14361]} من أجل اتباعه أو بحذف " آل " فرعون ، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد أبعد ، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة .


[14354]:- في ت : "الإيمان".
[14355]:- في ت : "الشاب".
[14356]:- في ت : "فكانت".
[14357]:- في ت ، "والشاب".
[14358]:- في ت : "لفرعون".
[14359]:- في ت : "طاويا".
[14360]:- في ت : "بحاله".
[14361]:- في ت : "للملك".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (83)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىَ إِلاّ ذُرّيّةٌ مّن قَوْمِهِ عَلَىَ خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرْضِ وَإِنّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } .

يقول تعالى ذكره : فلم يؤمن لموسى مع ما أتاهم به من الحجج والأدلة إلا ذرية من قومه خائفين من فرعون وملئهم .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرّية في هذا الموضع ، فقال بعضهم : الذرية في هذا الموضع : القليل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال : كان ابن عباس يقول : الذرية : القليل .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ الذرّيّة : القليل ، كما قال الله تعالى : كمَا أنْشأَكُمْ مِنْ ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ .

وقال آخرون : معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان لأن الاَباء ماتوا وبقي الأبناء ، فقيل لهم ذرّية ، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال : أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ومات آباؤهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال : أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ قال : أبناء أولئك الذين أرسل إليهم فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما آمن لموسى إلا ذرّية من قوم فرعون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ قال : كانت الذرّية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .

وقدرُوي عن ابن عباس خبر يدلّ على خلاف هذا القول ، وذلك ما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ذُرّيّةٌ مِنْ قَوْمهِ يقول : بني إسرائيل .

فهذا الخبر ينبىء عنه أنه كان يرى أن الذرّية في هذا الموضع هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون .

وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية القول الذي ذكرته عن مجاهد ، وهو أن الذرية في هذا الموضع أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل ، فهلكوا قبل أن يقرّوا بنبوّته لطول الزمان ، فأدركت ذرّيتهم فآمن منهم من ذكر الله بموسى .

وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله «من قومه » من ذكر موسى لقربهم من ذكره ، أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبُعد ذكره منها ، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر .

وبعد ، فإن في قوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ الدليل الواضح على أن الهاء في قوله : إلاّ ذُرّيّةٌ مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لا من ذكر فرعون لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام : «على خوف منه » ، ولم يكن على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ .

وأما قوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرّية قوم موسى بموسى .

فتأويل الكلام : فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه من بني إسرائيل وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم . وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل : فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه ، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط ، فقيل لهم الذرّية من أجل ذلك ، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم : أبناء . والمعروف من معنى الذرّية في كلام العرب : أنها أعقاب من نسبت إليه من قِبَل الرجال والنساء ، كما قال جلّ ثناؤه : ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوح وكما قال : وَمنْ ذُرّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيمانَ وأيّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد : وَزَكَرِيّا وَيْحَيى وَعِيسَى وَإلَيْاسَ فجعل من كان من قِبَل الرجال والنساء من ذرّية إبراهيم .

وأما قوله : وَمَلَئِهِمْ فإن الملأ : الأشراف . وتأويل الكلام : على خوف من فرعون ومن أشرافهم .

واختلف أهل العربية فيمن عني بالهاء والميم اللتين في قوله : وَمَلَئِهِمْ فقال بعض نحويي البصرة : عني بها الذرّية . وكأنه وجه الكلام إلى : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، على خوف من فرعون ، وملأ الذرية من بني إسرائيل . وقال بعض نحويي الكوفة : عني بهما فرعون ، قال : وإنما جاز ذلك وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر لخوف أو سفر وقدوم من سفر ذهب الوهم إليه وإلى من معه . وقال : ألا ترى أنك تقول : قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد بمن معه ، وقدم فغلت الأسعار ؟ لأنا ننوي بقدومه قدوم من معه . قال : وقد يكون يريد أن بفرعون آل فرعون ، ويحذف آل فرعون فيجوز ، كما قال : وَاسْئَل القَرْيَةَ يريد أهل القرية ، والله أعلم . قال : ومثله قوله : يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الهاء والميم عائدتان على الذرية . ووجه معنى الكلام إلى أنه على خوف من فرعون ، وملأ الذرّية لأنه كان في ذرّية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيّا وأمه إسرائيلية ، فمن كان كذلك منهم كان مع فرعون على موسى . وقوله : أنْ يَفْتِنَهُمْ يقول : كان إيمان من آمن من ذرّية قوم موسى على خوف من فرعون أن يفتنهم بالعذاب ، فيصدّهم عن دينهم ، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله . وقال : أنْ يَفْتِنَهُمْ فوحد ولم يقل : «أن يفتنوهم » ، لدليل الخبر عن فرعون بذلك أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه لما قد تقدّم من قوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ . وقوله : وَإنّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأرْضِ يقول تعالى ذكره : وإن فرعون لجبار مستكبر على الله في أرضه . وإنّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به وجحوده وحدانية الله وادّعاؤه لنفسه الألوهة وسفكه الدماء بغير حلها .