{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم . . . }
معنى الآية الكريمة : أحب وتمنى عدد كثير من اليهود الذين هم أهل كتاب ، أن ينقلوكم أيها المؤمنون من الإِيمان إلى الكفر ، حسداً لكم وبغضاً لدينكم ، من بعد ما ظهر لهم أنكم على الحق باتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم فلا تهتموا بهم ، بل قابلوا أحقادهم وضرورهم بترك عقابهم ، والإِعراض عن أذاهم ، حتى يأذن لاله لكم فيهم بما فيه خيركم ونصركم ، فإنه - سبحانه - على كل شيء قدير " .
وقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً } بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود ، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق ، إلى الكفر الذي أنقذهم الله - تعالى - منه .
وإنما أسند - سبحانه - هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم ، انصافاً للقلة المؤمنة التي لم ترتض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله إلى الإِسلام .
وقوله تعالى : { بَعْدِ إِيمَانِكُمْ } مبالغة في ذمهم بسبب ما تمنوه وأحبوه إذ ودوا - وهم أهل كتاب - أن يحل الكفر محل الإِيمان ، وفيه إشعار بأن ما تمنوه بعيد الحصول ؛ لأن الإِيمان متى خالطت بشاشته القلوب ، منع صاحبه من الانتقال إلى الكفر .
ثم بين - سبحانه - أن الذي حملهم على هذا التمني الذميم هو الحقد والحسد ، فقال تعالى : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } أي : أن هذا التمني لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوسهم ، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإِيمان ويتمنون التحول عنه إلى الكفر ، فالجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة ، من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر .
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين : " والحسد : قلق النفس من رؤية نعمة يصيبها إنسان ، وينشأ عن هذا القلق تمنى زوال تلك النعمة عن الغير وتمني زوال النعم مذموم بكل لسان ، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد ، فإن تمنى زوالها كراهية للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فهي الغبطة والمنافسة ، وهي محمودة لأنها قد تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها ، والحسد قد يهجم على الإِنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود ، وإنما يؤاخذ الإِنسان على رضاه به ، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود ، والقصد إلى إزالة النعمة عنه " .
وقوله تعالى : { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } إعلام للمؤمنين ، بأن هؤلاء اليهود لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، بل إن كتابهم لينهاهم عن هذا الخلق الذميم ولكنهم لخبث نفوسهم وسوء طباعهم رسخ الحسد في قلوبهم لدرجة يعسر معها صرفه عنهم ، أو صرفهم عنه .
والجملة الكريمة { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } تدل على أن أولئك اليهود يعتقدون صحة دين الإِسلام ، إذ الإِنسان لا يحسد غيره على دين إلا إذا عرف في نفسه صحته ، وأنه طريق الفوز والفلاح .
وقوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإِيمان وقعت ، بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم بوعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن المبشر به ، لا تنطبق إلا عليه ، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل ، وذلك هو شأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة ، وبتبشيرها بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ثم أمر الله تعالى المؤمنين في ختام الآية أن يقابلوا شرور اليهود بالعفو والصفح ، وأن يوادعوهم إلى حين فقال تعالى : { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
والعفو : ترك العقاب على الذنب . والصفح : ترك المؤاخذة عليه ، فكل صفح عفو ولا عكس .
والمعنى : عليكم أيها المؤمنون أن تتركو معاقبة أولئك اليهود الحاسدين وأن تعرضوا عن رفع السيف في وجوههم حتى يأذن الله لكم في أن تشفو صدوركم منهم ، ويبيح قتالهم الذي يترتب عليه نصركم ، إذ أن كل شيء داخل تحت سلطان قدرته - تعالى - .
فالمراد بالأمر في قوله تعالى : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِه } الإِذن للمسلمين بقتالهم في الوقت الذي يختاره الله - تعالى - لهم ، عند ما تكون لهم القوة التي يتمكنون بها من جهاد أعدائهم .
قال صاحب المنار : قال الأستاذ الإِمام : " وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول : لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، فعاملوهم معاملة القوي العادل ، للضعيف الجاهل وفي إنزال المؤمنين على قلتهم منزلة الأقوياء ، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء ، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإِلهية ، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم ، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل كما قلنا غيره مرة ، وإنما بقاء البالط في غفلة الحق عنه " .
وقد أكد الله - تعالى - وعده بقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي أن كل شيء داخل تحت قدرته النافذة التي لا يعجزها شيء .
وقد أنجز الله - تعالى - وعده ، فأذن للمؤمنين في الوقت المناس بقتال اليهود وتأديبهم ، وقد ترتب على ذلك النصر للمؤمنين ، والطرد والقتل لليهود الحاقدين .
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ، حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . .
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس . . الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون . . لماذا ؟ لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم . ولكنها لأنها تعلم !
( حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . .
والحسد هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين ، وما زالت تفيض ، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيراتهم كلها وما تزال . وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه ، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم ؛ وردهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه ، والذي أنقدهم الله منه بالإيمان ، وخصهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي تحسدهم عليها يهود !
وهنا - في اللحظة التي تتجلى فيها هذه الحقيقة ، وتنكشف فيها النية السيئة والحسد اللئيم - هنا يدعو القرآن المؤمنين إلى الارتفاع عن مقابلة الحقد بالحقد ، والشر بالشر ، ويدعوهم إلى الصفح والعفو حتى يأتي الله بأمره ، وقتما يريد :
( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . إن الله على كل شيء قدير ) . .
{ وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتّىَ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قال أبو جعفر : وقد صرّح هذا القول من قول الله جل ثناؤه ، بأن خطابه بجميع هذه الاَيات من قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تقولوا رَاعِنا } وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إنما هو خطاب منه للمؤمنين وأصحابه ، وعتاب منه لهم ، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم ، ودليل على أنهم كانوا استعملوا ، أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء ، وما لم يكن له استعماله معه ، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم . فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك : لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود : «راعنا » تأسيا منكم بهم ، ولكن قولوا : «انظرنا واسمعوا » ، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي وجحود لحقّي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره ، ولمن كفر بي عذاب أليم فإن اليهود والمشركين ما يودّون أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، ولكن كثيرا منهم ودّوا أنهم يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعدما تبين لهم الحقّ في أمر محمد وأنه نبيّ إليهم وإلى خلقي كافة . وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } كعب بن الأشرف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } هو كعب بن الأشرف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان العمري ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ }قال كعب بن الأشرف . وقال بعضهم بما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق . وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان حُيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ } الآية .
وليس لقول القائل عَنَى بقوله : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ كعب بن الأشرف معنى مفهوم لأن كعب بن الأشرف واحد ، وقد أخبر الله جلّ ثناؤه أن كثيرا منهم يودّون لو يردّون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم . والواحد لا يقال له كثير بمعنى الكثرة في العدد ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية الكثرة في العزّ ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته ، كما يقال : فلان في الناس كثير ، يراد به كثرة المنزلة والقدر . فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة ، فقال : { لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا } فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد . أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة ، والمقصود بالخبر عنه الواحد ، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل فيكون ذلك أيضا خطأ ، وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى فلا بد من دلالة فيه تدلّ على أن ذلك معناه ، ولا دلالة تدلّ في قوله : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال .
القول في تأويل قوله تعالى : حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ .
ويعني جل ثناؤه بقوله : { حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } أن كثيرا من أهل الكتاب يودّون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم من الردّة عن إيمانهم إلى الكفر حسدا منهم وبغيا عليهم . والحسد إذا منصوب على غير النعت للكفار ، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر ، كقول القائل لغيره : تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك . فيكون الحسن مصدرا من معنى قوله : تمنيت من السوء لأن في قوله تمنيت لك ذلك ، معنى حسدتك على ذلك . فعلى هذا نصب الحسد ، لأن في قوله : { وَدّ كَثِير مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانكُمْ كُفّارا } يعني : حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق ، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله ، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلاً منكم رءوفا بكم رحيما ، ولم يجعله منهم ، فتكونوا لهم تبعا . فكان قوله : حَسَدا مصدرا من ذلك المعنى .
وأما قوله : { مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } فإنه يعني بذلك : من قِبَلِ أنفسهم ، كما يقول القائل : لي عندك كذا وكذا ، بمعنى : لي قِبَلك . وكما :
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ( عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ) قوله : { مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ } قال : من قبل أنفسهم .
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين من عند أنفسهم إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لهُمُ الحَقّ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الذين يودّون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم الحقّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه والملة التي دعا إليها فأضاء لهم أن ذلك الحقّ الذي لا يمترون فيه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإسلامَ دينُ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } يقول : تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله وزاد فيه : فكفروا به حسدا وبغيا ، إذْ كان من غيرهم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } قال : الحقّ : هو محمد صلى الله عليه وسلم فتبين لهم أنه هو الرسول .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } قال : قد تبين لهم أنه رسول الله .
قال أبو جعفر : فدلّ بقوله ذلك أن كُفْرَ الذين قصّ قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله عنادٌ ، وعلى علم منهم ومعرفة ، بأنهم على الله مفترون . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الحَقّ } يقول الله تعالى ذكره : من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحد . فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشدّ الملامة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا } حتى يَأتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : فاعْفُوا فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم ، إرادةَ صَدّكم عنه ، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم ، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم : اسْمَعْ غَيْر مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد . فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به : { قاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ ، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكتاب حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدّوا الجزية عن يد صَغَارا . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله :
{ فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ إنّ اللّهَ على كلّ شَيْءٍ قَدِير } ونسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يأتِي اللّهُ بأمْرِهِ } فأتى الله بأمره فقال : { قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ } حتى بلغ : { وهُمْ صَاغِرُونَ } أي صَغَارا ونقمة لهم فنسخت هذه الآية ما كان قبلها : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } قال : اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا . فأحدث الله بعد فقال : { قَاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ } إلى : { وهُمْ صَاغِرُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ } قال : نسختها : { اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يَأتِيَ اللّهُ بأمْرِهِ } قال : هذا منسوخ ، نَسَخَه : { قاتِلُوا الذين لا يُؤمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ الله على كُلّ شيْءٍ قَدِير } .
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى القدير وأنه القويّ . فمعنى الآية ههنا : أن الله على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قديرٌ ، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربهم وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذّر عليه شيء أراده ولا يتعذّر عليه أمر شاء قضاءه لأن له الخلق والأمر .
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم ، وآخرتها شبهة النسخ ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر . وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله : { ما ننسخ } [ البقرة : 106 ] الآيات للوجوه المتقدمة ، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها . وفي « تفسير ابن عطية » و« الكشاف » و« أسباب النزول » للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس{[156]} وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار : « ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم » فردا عليهم وثبتا على الإسلام .
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } [ البقرة : 105 ] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعاً فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا ، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به . وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير بـِِ { يردونكم } دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية . وبه يظهر وجه مجيء { كفاراً } معمولاً لمعمول { ود كثير } ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفاراً بالله أي كفارا كفراً متفقاً عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صْدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه ، وبه يظهر أيضاً وجه قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } فإنه تبيُّنُ أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك ، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم .
و { لو } هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر .
و { حسداً } حال من ضمير { وَدَّ } أي إن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر .
وقوله : { من عند أنفسهم } جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم . وأُكد ذلك بكلمة ( عند ) الدالةِ على الاستقرار ليزداد بيانُ تمكنه وهو متعلق بحسداً لا بقوله : { ود } .
وإنّما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى : { وكره إليكم الكفر } [ الحجرات : 7 ] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيراً للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل .
والعفو ترك عقوبة المذنب . والصفح بفتح الصاد مصدر صفح صفحاً إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيءٍ ولاه من صفحة وجهه ، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفاً من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق .
وقوله : { حتى يأتي الله بأمره } أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة ، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية .
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطميناً لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلاً وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ، ومن ذلك إجلاء بني النضير .
ولعل في قوله : { إن الله على كل شيء قدير } تعليماً للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له نداً وهو يرزقهم " ، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل : إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية . فجملة { إن الله على كل شيء قدير } تذييل مسوق مساق التعليل ، وجملة { فاعفوا واصفحوا } إلى قوله : { وقالوا لن يدخل } [ البقرة : 111 ] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلاً وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضاً . وقد جوزه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } في سورة النحل ( 43 ) ، وجوزه ابن هشام في « مغني اللبيب » واحتج له بقوله تعالى : { فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس ( 11 ، 13 ) { إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة } أنه قال لا يصح أن تكون جملة { فمن شاء ذكره } اعتراضاً لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب « الكشاف » بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل .