ثم ساق - تعالى - بعد ذلك أنواعا من نعمه على عباده فقال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، أي : والله - تعالى - وحده هو الذي أخرجكم - أيها الناس - من بطون أمهاتكم إلى هذه الدنيا ، وأنتم لا تعلمون شيئا ، لا من العلم الدنيوي ولا من العلم الديني ، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم ، والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً . . } . وجملة : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، حال من الكاف في { أخرجكم } .
وقوله - سبحانه - : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، نعمة ثانية من نعمة الله - سبحانه - التي لا تحصى .
أي : أن من نعمة الله - تعالى - أنه أخرجكم من بطون أمهاتكم ، - بعد أن مكثتم فيها شهورا تحت كلاءته ورعايته - ، وأنتم لا تعرفون شيئا ، وركب فيكم بقدرته النافذة ، وحكمته البالغة ، { السمع } الذي تسمعون به ، والبصر الذي بواسطته تبصرون ، { والأفئدة } التي عن طريقها تعقلون وتفقهون ، لعلكم بسبب كل هذه النعم التي أنعمها عليكم ، تشكرونه حق الشكر ، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة ، وتستعملوا نعمه في مواضعها التي وجدت من أجلها .
قال الجمل : وجملة : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار . . . } ابتدائية ، أو معطوفة على ماقبلها ، والواو لا تقتضي ترتيبا ، فلا ينافي أن هذا الجعل قبل الإِخراج من البطون . ونكتة تأخيره ، - أي الجعل - ، أن السمع ونحوه من آلات الإدراك ، إنما يعتد به إذا أحس الإِنسان وأدرك ، وذلك لا يكون إلا بعد الإِخراج . وقدم السمع على البصر ؛ لأنه طريق تلقي الوحي ، أو لأن إدراكه أقدم ، من إدراك البصر . وإفراده ، - أي السمع - ، باعتبار كونه مصدرا في الأصل . . . .
وقال الإِمام ابن كثير : " وهذه القوى والحواس تحصل للإِنسان على التدريج قليلا قليلا ، حتى يبلغ أشده . وإنما جعل - تعالى - هذه الحواس في الإِنسان ليتمكن بها من عبادة ربه ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه ، كما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول تعالى - : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب . وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل مما افترضت عليه ، ولايزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وماترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولابد له منه " . فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة ، صارت أفعاله كلها لله ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله ، أي : لما شرعه الله له . . .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }
ويقرب القرآن الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر ، تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم ، وهو يقع في كل لحظة من ليل أو نهار :
( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) .
وهو غيب قريب ، ولكنه موغل بعيد . وأطوار الجنين قد يراها الناس ، ولكنهم لا يعلمون كيف تتم ، لأن سرها هو سر الحياة المكنون . والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب ، علم حادث مكسوب : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ومولد كل عالم وكل باحث ، ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا قريب قريب ! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر ، وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب ، في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة )والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية ؛ وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل ، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل . جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ( لعلكم تشكرون )حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم . وأول الشكر : الإيمان بالله الواحد المعبود .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله تعالى أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، من بعد ما أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعقلون شيئا ولا تعلمون ، فرزقكم عقولاً تفقهون بها ، وتميزون بها الخير من الشرّ ، وبصرّكم بها ما لم تكونوا تبصرون ، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات ، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به بينكم ، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص ، فتتعارفون بها وتميزون بها بعضا من بعض . و " الأفْئِدَةَ " يقول : والقلوب التي تعرفون بها الأشياء ، فتحفظونها وتفكرون فتفقهون بها . { لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، يقول : فعلنا ذلك بكم ، فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم من ذلك ، دون الآلهة والأنداد ، فجعلتم له شركاء في الشكر ، ولم يكن له فيما أنعم به عليكم من نعمه شريك .
وقوله : { وَاللّهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا } كلام متناه ، ثم ابتدىء الخبر ، فقيل : وجعل الله لكم السمع والأبصار والأفئدة . وإنما قلنا ذلك كذلك ؛ لأن الله تعالى ذكره جعل العبادة والسمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم من بطون أمهاتهم ، وإنما أعطاهم العلم والعقل بعدما أخرجهم من بطون أمهاتهم .
وقوله : { والله أخرجكم } ، الآية ، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل ، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها ، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئاً ، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلماً إلى درك المعارف ، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه ، و «أمهات » أصله أمات ، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيداً ، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء ، قاله أبو إسحاق ، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا ، وقرأ حمزة والكسائي : «إمهاتكم » ، بكسر الهمزة ، وقرأ الأعمش : «في بطون أمِّهاتكم » ، بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة ، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة ، قال أبو حاتم : حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب{[7388]} . والترجي الذي في «لعل » هو بحسبنا ، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار{[7389]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.