لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

قوله عز وجل : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } ، تم الكلام هنا ؛ لأن الإنسان خلق في أول الفطرة ، ومبدئها خالياً عن العلم والمعرفة لا يهتدي سبيلاً ، ثم ابتدأ ، فقال تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ، يعني : أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم ، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة ، وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم ، وجعل لكم الأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته ، وغرائب مخلوقاته ، فتستدلوا بها على وحدانيته . وجعل لكم الأفئدة لتعقلوا بها ، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته ، وقال ابن عباس : في هذه الآية يريد لتسمعوا مواعظ الله وتبصروا ما أنعم الله به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم ، إلى أن صرتم رجالاً وتعقلوا عظمة الله ، وقيل في معنى الآية : والله خلقكم في بطون أمهاتكم وسواكم وصوركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة ، وجعل لكم الحواس آلات ؛ لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه ، واجتلاب العلم والعمل به ، من شكر المنعم وعبادته ، والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم به في الآخرة . فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن جعل الحواس الثلاث بعد الإخراج من البطون ، وإنما خلقت هذه الحواس للإنسان من جملة خلقه ، وهو في بطن أمه . قلت : ذكر العلماء أن تقديم الإخراج ، وتأخير ذكر هذه الحواس لا يدل على أن خلقها كان بعد الإخراج ؛ لأن الواو لا توجب الترتيب ؛ ولأن العرب تقدم وتؤخر في بعض كلامها . وأقول لما كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن ، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه ، وإن كانت قد خلقت قبل ذلك . وقوله تعالى : { لعلكم تشكرون } ، يعني : إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم .