إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

{ والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم } ، عطف على قوله تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } ، منتظمٌ معه في سلك أدلةِ التوحيد من قوله تعالى : { والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } ، وقولِه تعالى : { والله خَلَقَكُمْ } ، وقوله تعالى : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } ، والأمهات : بضم الهمزة ، وقرئ : بكسرها أيضاً ، جمعُ الأم زيدت الهاء فيه ، كما زيدت في أهراق من أراق ، وشذّت زيادتُها في الواحدة ، قال : [ الرجز ]

أُمهتي خِندِفُ والياسُ أبي{[488]} *** . . . . . . . .

{ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ، في موقع الحال ، أي : غيرَ عالمين شيئاً أصلاً ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ، عطف على ( أخرجكم ) ، وليس فيه دلالةٌ على تأخر الجمعِ المذكورِ عن الإخراج ؛ لما أن مدلولَ الواو هو الجمعُ مطلقاً لا الترتيبُ ، على أن أثر ذلك الجعلِ لا يظهر قبل الإخراج ، أي : جعل لكم هذه الأشياءَ آلاتٍ تحصّلون بها العلمَ والمعرفة ؛ بأن تُحِسوا بمشاعركم جزئياتِ الأشياء وتُدركوها بأفئدتكم ، وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساسِ ، فيحصل لكم علومٌ بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية . والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو وسطُ القلب ، وهو للقلب كالقلب من الصدر ، وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة ، وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذان من أول الأمر بكون المجعول نافعاً لهم ، وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلَ تمكن ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه ، وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي ، أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر ، وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل .


[488]:قبل هذا: إني لدى الحرب رخي لببي *** عند تناديهم بهال وهب معتزم الصولة عال نسبي *** أمهتي خندف والياس أبي والرجز لقصي بن كلاب في خزانة الأدب 7/379، والدرر 1/83، وسمط الآلي ص 950، وشرح شواهد الشافية ص 301، ولسان العرب (سلك، أمه) والمقاصد النحوية 4/565، وديوان الأدب 4/175، وتاج العروس (هول، أمم).