السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فعطف على قوله تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ، قوله عز وجل : { والله } ، أي : الذي له العظمة كلها ، { أخرجكم } بقدرته وعلمه ، { من بطون أمّهاتكم } حال كونكم عند الإخراج ، { لا تعلمون شيئاً } من الأشياء قلّ أو جلّ ، فالذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطون الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى . وقرأ حمزة والكسائي : بكسر الهمزة ، والباقون بضمها ، وقرأ حمزة : بكسر الميم ، والباقون : بفتحها ، ثم عطف على أخرجكم قوله تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ، آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه ، وفتق مواضعها وسوّاها وعدلها ، وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يد ، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة ، فالذي قدر على ذلك في البطن إبداعاً ، قادر على إعادته في بطن الأرض ، بل بطريق الأولى . قال البقاعيّ : ولعله تعالى جمعهما ، أي : الأبصار والأفئدة دون السمع ؛ لأنّ التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله ، والأفئدة ، هي : القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن ، بما أودعها من الحرارة اللطيفة للمعاني الدقيقة ، { لعلكم تشكرون } ، لتصيروا بمعارف القلوب التي وهبكموها ، إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات ، في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه ، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة ، فإنه إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم .

فإن قيل : عطف : { وجعل لكم السمع } ، على : { أخرجكم } ، يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرين عن الإخراج من البطون ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ؟ أجيب : بأنّ حرف الواو لا يوجب الترتيب ، وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع ، والأبصار على الرؤية ، زال السؤال .