اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

قوله - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، لما بين كمال القدرة والعلم ، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } . قرأ حمزة{[19995]} والكسائي : " إمَّهاتِكُمْ " بكسر الهمزة ، والباقون بضمِّها . وأصل " أمَّهاتِكُم " : إمَّاتكُم ، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في " أراق " فقيل : أهراق ، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله : [ الرجز ]

أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي{[19996]} *** والجملة من قوله : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، حالٌ من مفعول : " أخْرَجَكُمْ " غير عالمين ، و " شَيْئاً " ، إمَّا مصدر ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعول به ، والعلم هنا العرفان ، وتقدَّم الكلام في " أمَّهَاتِكُمْ " في النِّساء .

فصل

خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء .

ثم قال تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ، والمعنى : أن النَّفس الإنسانية كانت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس ؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم ، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة ؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات ، فلابد من سبق العلوم البديهيَّة .

فإن قيل : هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا ، أو ما كانت حاصلة ؛ والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ أن النَّفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء .

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة ، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وذلك محال .

فالجواب : أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً ، ثم إنها حدثت ، وحصلت ، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية ، فهذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها ، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر ، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ؛ فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى ، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع ؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل .

ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين :

أحدهما : ما يكون حضوره موجباً تاماً في جرم الذِّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن ؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة .

والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النَّظريَّة ؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو ؟ والمحدث ما هو ؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث ، بل لابدَّ فيه من [ دليل ]{[19997]} منفصل وعلوم سابقة .

والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة ، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها ، وتصوُّر محمولاتها ، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها ؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو : أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس .

فلهذا قال - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ، ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور .

وقال المفسرون : " وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ " ؛ لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، " والأبْصَارَ " ؛ لتبصروا دلائل [ آلاء ]{[19998]} الله ، " والأفْئِدةَ " ؛ لتعقلوا عظمة الله .

و " الأفْئِدَة " جمع فُؤادِ ؛ نحو : أغْرِبة وغُراب ، قال الزجاج : ولم يجمع " فُؤاد " على أكثر العددِ ، وما قيل : " فِئْدَان " كما قيل : " غُرَاب وغِرْبَان " .

ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة ؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليلٌ ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة ، والعلوم اليقينيَّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب .

وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : " إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلَّة ، نحو : " شُسُوع " ، فإنَّها للكثرة ، وتستعمل في القلَّة ، ولم يسمع غير شسوع . كذا قال وفيه نظر ، فقد سمع فيهم : " أشساع " فكان ينبغي أن يقال : غلب " شسوع " .

فإن قيل : قوله - عز وجل- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } ، عطف على قوله : " أخْرَجَكُم " وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن ؛ وليس كذلك .

فالجواب : أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب ، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية ، زال السؤال ، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى- : " وجَعلَ " معطوفاً على " أخْرَجَكُم " ، فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ، ويجوز أن يكون مستأنفاً .

فصل

قيل : معنى الكلام : لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ، أي : من منافعكم .

قال البغوي - رحمه الله- : " تمَّ الكلام عند قوله - تعالى- : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، ثمَّ ابتدأ فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات ، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج " .

وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر ، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم ، في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى- .

وقوله - تعالى- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } ، أي : لتسمعوا به الأمر والنهي ، " والأبْصَارَ " ، أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله ، " والأفْئِدةَ " ؛ لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي : نِعَمه .


[19995]:ينظر: القرطبي 10/100 ، والبحر المحيط 5/505.
[19996]:البيت لقصي بن كلاب وتمامه: عند تناديهم بهال وهبي. ينظر: جمهرة اللغة 3/267، شواهد العيني 4/565، الخزانة 3/306، اللسان (أمم)، الأمالي 2/301، المحتسب 2/224، الممتع 1/217. سر صناعة الإعراب 2/564، الرازي 20/91، شرح شواهد الشافية 301، التصريح 2/362، الهمع 1/23، الدرر 1/5.
[19997]:في ب: ضمير.
[19998]:زيادة من: ب.