قوله - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، لما بين كمال القدرة والعلم ، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } . قرأ حمزة{[19995]} والكسائي : " إمَّهاتِكُمْ " بكسر الهمزة ، والباقون بضمِّها . وأصل " أمَّهاتِكُم " : إمَّاتكُم ، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في " أراق " فقيل : أهراق ، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله : [ الرجز ]
أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي{[19996]} *** والجملة من قوله : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، حالٌ من مفعول : " أخْرَجَكُمْ " غير عالمين ، و " شَيْئاً " ، إمَّا مصدر ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعول به ، والعلم هنا العرفان ، وتقدَّم الكلام في " أمَّهَاتِكُمْ " في النِّساء .
خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء .
ثم قال تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ، والمعنى : أن النَّفس الإنسانية كانت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس ؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم ، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة ؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات ، فلابد من سبق العلوم البديهيَّة .
فإن قيل : هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا ، أو ما كانت حاصلة ؛ والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ أن النَّفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء .
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة ، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وذلك محال .
فالجواب : أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً ، ثم إنها حدثت ، وحصلت ، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية ، فهذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها ، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر ، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ؛ فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى ، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع ؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل .
ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين :
أحدهما : ما يكون حضوره موجباً تاماً في جرم الذِّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن ؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة .
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النَّظريَّة ؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو ؟ والمحدث ما هو ؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث ، بل لابدَّ فيه من [ دليل ]{[19997]} منفصل وعلوم سابقة .
والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة ، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها ، وتصوُّر محمولاتها ، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها ؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو : أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس .
فلهذا قال - تعالى- : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ، ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور .
وقال المفسرون : " وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ " ؛ لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، " والأبْصَارَ " ؛ لتبصروا دلائل [ آلاء ]{[19998]} الله ، " والأفْئِدةَ " ؛ لتعقلوا عظمة الله .
و " الأفْئِدَة " جمع فُؤادِ ؛ نحو : أغْرِبة وغُراب ، قال الزجاج : ولم يجمع " فُؤاد " على أكثر العددِ ، وما قيل : " فِئْدَان " كما قيل : " غُرَاب وغِرْبَان " .
ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة ؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليلٌ ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة ، والعلوم اليقينيَّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب .
وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : " إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلَّة ، نحو : " شُسُوع " ، فإنَّها للكثرة ، وتستعمل في القلَّة ، ولم يسمع غير شسوع . كذا قال وفيه نظر ، فقد سمع فيهم : " أشساع " فكان ينبغي أن يقال : غلب " شسوع " .
فإن قيل : قوله - عز وجل- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } ، عطف على قوله : " أخْرَجَكُم " وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن ؛ وليس كذلك .
فالجواب : أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب ، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية ، زال السؤال ، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى- : " وجَعلَ " معطوفاً على " أخْرَجَكُم " ، فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ، ويجوز أن يكون مستأنفاً .
قيل : معنى الكلام : لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئاً ، أي : من منافعكم .
قال البغوي - رحمه الله- : " تمَّ الكلام عند قوله - تعالى- : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ، ثمَّ ابتدأ فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات ، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج " .
وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر ، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم ، في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى- .
وقوله - تعالى- : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } ، أي : لتسمعوا به الأمر والنهي ، " والأبْصَارَ " ، أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله ، " والأفْئِدةَ " ؛ لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي : نِعَمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.