ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي { إمهاتكم } بكسر الهمزة ، والباقون بضمها .
المسألة الثانية : أمهاتكم أصله أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : إهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :
أمهتي خندف واليأس أبي *** . . .
المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء .
ثم قال تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } والمعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء .
وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل .
وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا . ثم إنها حدثت وحصلت ، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية .
قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس ، فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين : أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين البديهية .
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو ، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة . والحاصل : أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية ، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها . وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس . فلهذا السبب قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات . وقال المفسرون : { وجعل لكم السمع } لتسمعوا مواعظ الله { والأبصار } لتبصروا دلائل الله ، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله ، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب . قال الزجاح : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فئدان كما قيل : غراب وغربان . وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل ، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة .
فإن قيل : قوله تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار } عطف على قوله : { أخرجكم } وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك .
والجواب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.