مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي { إمهاتكم } بكسر الهمزة ، والباقون بضمها .

المسألة الثانية : أمهاتكم أصله أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل : إهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله :

أمهتي خندف واليأس أبي *** . . .

المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء .

ثم قال تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } والمعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء .

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل .

وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا . ثم إنها حدثت وحصلت ، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية .

قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس ، فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين : أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين البديهية .

والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو ، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة . والحاصل : أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية ، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها . وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس . فلهذا السبب قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات . وقال المفسرون : { وجعل لكم السمع } لتسمعوا مواعظ الله { والأبصار } لتبصروا دلائل الله ، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله ، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب . قال الزجاح : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فئدان كما قيل : غراب وغربان . وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل ، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة .

فإن قيل : قوله تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار } عطف على قوله : { أخرجكم } وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك .

والجواب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ، والله أعلم .