غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (78)

71

ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } ، قال جار الله : هو في موضع الحال ، أي : غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وجعل لكم } ، معناه : وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات ؛ لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه ، واجتلاب العلم ، والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم . { والأفئدة } ، في فؤاد كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضاً ؛ لعدم ورود غيرها . واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة ، حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات ، وحضرت صورها في ذهنه ، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق ، إن كان كافياً في جزم الذهب بثبوت بعضها لبعض ، أو انتفاء بعضها عن بعض ، فتلك الأحكام علوم بديهية ، وإن لم تكن كذلك ، بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ، ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً ؛ للدور أو التسلسل ، فهي علوم كسبية . وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية . وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة ، وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارها عليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً ، وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية . فالمراد بقوله : { لا تعلمون شيئاً } : أنه لا يظهر أثر العلم عليكم . ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق . ومعنى : { لعلكم تشكرون } ، إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله . وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف { جعل } على { أخرج } ، أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن ، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ البقرة : 7 ] ، أنه لم وحد السمع وجمع غيره ؟

/خ83