التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها ما فيها من الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، الذين رضى عنهم وأرضاهم فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ . . . } .

وقوله - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } مبتدأ وخبر ، أو { مُّحَمَّدٌ } خبر لمتبدأ محذوف ، و { رَّسُولُ الله } بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى : هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { والذين مَعَهُ } وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أى : غلاظ عليهم ، وأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } .

أى : أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى . .

وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه .

وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم . . . } قال صاحب الكشاف : " وعن الحسن أنه قال : " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه . .

وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . } ثم وصفهم بوصف آخر فقال : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } .

أى : تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه . .

ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود . . } أى : علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين .

فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء . . يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان .

واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - .

قال الآلوسى : " أخرج من مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فى قوله - تعالى - : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } النور يوم القيامة " .

ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر . .

واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى : ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - .

ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع . . } .

وقوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - .

والشط : فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى : جانبيه . وجمعه : أشطاء ، وشطوء ، يقال : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل .

وقوله { فَآزَرَهُ } أى : فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده .

ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي } .

وقوله : { فاستغلظ } أى : فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا .

وقوله : { فاستوى على سُوقِهِ } أى : فاستقم وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها .

وقوله : { يُعْجِبُ الزراع } أى : يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته .

والمعنى : أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها .

فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا فى ذلك .

وصدق الله إذا يقول : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه .

كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها ما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع .

وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } .

ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما .

فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .

ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ . . . } كلام مستأنف .

قال القرطبى : " قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل . . } قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " .

وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم فى التوارة . ثم أبتدأ فقال : ومثلهم فى الإِنجيل .

وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما فى التوارة ، والآخر فى الإِنجيل . . .

والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له .

وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين .

وقوله - تعالى - : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة .

أى : جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات . . لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين .

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .

و " من " فى قوله { مِنْهُم } الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان . . وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - .

ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هيلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ،

{ وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم .

قال القرطبى : " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . فقال مالك : من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - : قلت : لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحد منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين .

وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين . .

نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :

( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .

إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .

وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .

والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .

إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .

واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .

واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .

( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .

هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !

وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .

وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .

وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .

مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .

ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .

وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !

اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم : فيقرب له البعيد ? !

فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد ! ! !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

وقوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره : محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه ، أشدّاء على الكفار ، غليظة عليهم قلوبهم ، قليلة بهم رحمتهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول : رقيقة قلوب بعضهم لبعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم لهم . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ألقى الله في قلوبهم الرحمة ، بعضهم لبعض تَرَاهُمْ رُكّعا سُجّدا يقول : تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا يبتغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ يقول : يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا ، فضلاً من الله ، وذلك رحمته إياهم ، بأن يتفضل عليهم ، فيُدخلهم جنته وَرِضْوَانا يقول : وأن يرضى عنهم ربهم .

وقوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم . ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة ، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدينا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله العتكي ، عن خالد الحنفي ، قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السجُودِ قال : يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا ، وهو كقوله : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ .

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مروزق ، عن عطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا .

حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية ، مثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن حيان ، قال : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : النور يوم القيامة .

حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : قال عليّ بن المبارك : سمعت غير واحد عن الحسن ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجُودِ قال : بياضا في وجوههم يوم القيامة .

وقال آخرون : بل ذلك سيما الإسلام وسَمْته وخشوعه ، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : السّمُت الحَسَن .

قال : ثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الحسن بن عُمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : أما إنه ليس بالذي تَرَوْن ، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمْته وخشوعه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع والتواضع .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .

قال : ثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : السّحنْة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو الخشوع ، فقلت : هو أثر السجود ، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العَنْز ، وهو كما شاء الله .

وقال آخرون : ذلك أثر يكون في وجوه المصلين ، مثل أثر السّهَر ، الذي يظهر في الوجه مثل الكَلَف والتهيج والصفرة ، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه ، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن سِيماهُمْ في وجُوُهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الصفرة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم الشيخ الذي كان يقصّ في عُسر ، وقرأ سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ فزعم أنه السّهَر يُرى في وجوههم .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر بن عَطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : تهيّج في الوجه من سهر الليل .

وقال آخرون : ذلك آثار ترى في الوجه من ثَرَى الأرض ، أو نَدَى الطّهّور . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حَوْثرة بن محمد المِنقري ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة وحدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : ثَرى الأرض ، ونَدى الطّهُور .

حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : حدثنا عليّ بن المبارك ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت عكرِمة يقول : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو أثر التراب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود ، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت . وإذ كان ذلك كذلك ، فذلك على كلّ الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه ، وفي الاَخرة ما أخبر أنهم يعرفون به ، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود . وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم أو أعلمتهم الصلاة .

وقوله : ذلكَ مَثَلَهُمْ فِي التّوْرَاةِ يقول : هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة .

وقوله : وَمَثَلُهُمْ في الإنجِيلِ كَزَرْع أخْرَجَ شَطْأَهُ يقول : وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه ، وهو فراخه ، يقال منه : قد أشطأ الزرع : إذا فرّخ فهو يشطىء إشطاء ، وإنما مثلهم بالزرع المشطىء ، لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام ، وهم عدد قليلون ، ثم جعلوا يتزايدون ، ويدخل فيه الجماعة بعدهم ، ثم الجماعة بعد الجماعة ، حتى كثر عددهم ، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أصحابه مثلهم ، يعني نعتهم مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ . . . إلى قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ ثم قال : وَمَثَلهُمْ في الإنجيل كَزَرْعَ أخْرَجَ شَطْأَهُ . . . الآية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذلك مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ : أي هذا المثل في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شطأَهُ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاة يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة ، وليس بمَثَلهم في الإنجيل ، ثم قال عزّ وجلّ : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ . . . الآية ، هذا مثلهم في الإنجيل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ . . . الآية ، قال : هذا مثلهم في التوراة ، ومثل آخر في الإنجيل كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ الآية .

وقال آخرون : هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنجيل واحد .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : مثلهم في التوراة ، غير مثَلهم في الإنجيل ، وإن الخبر عن مَثلهم في التوراة متناهٍ عند قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد ، لكان التنزيل : ومثلهم في الإنجيل ، وكزرع أخرج شطأه ، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل ، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله : كَزَرْعٍ دليل بَيّن على صحة ما قُلنا ، وأن قولهم وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها . وبنحو الذي قلنا في قوله أخْرَجَ شَطْأَهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : بينا عبد الله يقرىء رجلاً عند غروب الشمس ، إذ مرّ بهذه الآية كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم .

قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حُميد الطويل ، قال : قرأ أنس بن مالك : كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ قال : تدرون ما شطأه ؟ قال : نباته .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : سنبله حين يتسلع نباته عن حباته .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ قال : هذا مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ، قيل لهم : إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهوّن عن المنكر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهريّ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قالا : أخرج نباته .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أولاده ، ثم كثرت أولاده .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال : ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمى .

وقوله : فآزرَهُ يقول : فقوّاه : أي قوّى الزرعَ شطأه وأعانه ، وهو من المؤازرة التي بمعنى المعاونة فاسْتَغْلَظَ يقول : فغلظ الزرع فاسْتَوَى على سُوقِهِ والسوق : جمع ساق ، وساق الزرع والشجر : حاملته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فآزَرَهُ يقول : نباته مع التفافه حين يسنبل ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجل يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ثم يغلظون ، فهم أولئك الذين كانوا معهم . وهو مَثل ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : بعث الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به ، ثم يكون القليل كثيرا ، ويستغلظون ، ويغيظ الله بهم الكفار .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله فآزَرَهُ قال : فشدّه وأعانه .

وقوله : عَلى سُوقِهِ قال : أصوله .

حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهري فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : فتلاحق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فآزَرَهُ اجتمع ذلك فالتفّ قال : وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء ، فلم يزل الله يزيد فيهم ، ويؤيدهم بالإسلام ، كما أيّد هذا الزرع بأولاده ، فآزره ، فكان مثلاً للمؤمنين .

حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : حبّ برّ نُثِرَ متفرّقا ، فتنبت كلّ حبة واحدة ، ثم أنبتت كلّ واحدة منها ، حتى استغلظ فاستوى على سوقه قال : يقول : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قليلاً ، ثم كثروا ، ثم استغلظوا لِيَغِيظَ الله بِهِمُ الكُفّارَ .

وقوله : يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول تعالى ذكره : يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته ، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول : فكذلك مَثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا ، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته ، ثم قال : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ فدلّ ذلك على متروك من الكلام ، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول الله : مثلهم كمثل زرع أخرج شطأه فآزَره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، حتى بلغ أحسن النبات ، يُعْجِب الزرّاع من كثرته ، وحُسن نباته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُعْجِبُ الزرّاع قال : يعجب الزرّاع حُسنه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ بالمؤمنين ، لكثرتهم ، فهذا مثلهم في الإنجيل .

وقوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وعَملُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرا عَظِيما يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم .

وقوله : مِنْهُمْ يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون فِي الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته . والهاء والميم في قوله مِنْهُمْ عائدة على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك جمع فقيل : «منهم » ، ولم يقل «منه » . وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله : وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُم رُكّعا سُجّدا .

وقوله وَمَغْفِرَةً يعني : عفوا عما مضى من ذنوبهم ، وسيىء أعمالهم بحسنها . وقوله : وأجْرا عَظيما يعني : وثوابا جزيلاً ، وذلك الجنة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } «ابتداء » و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .

قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .

وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .

وقرأ الجمهور : «اشداءُ » «رحماءُ » بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : «أشداءَ » رحماءَ «بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت » أشداءَ «على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : » ورُضواناً «بضم الراء .

وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .

قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء . . . . الحديث{[10432]} ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .

قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .

وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية{[10433]} : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس{[10434]} : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .

قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ){[10435]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله{[10436]} يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع{[10437]} شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .

وقرأ الأعرج : «من إثْر » بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : «من آثار » ، جمعاً .

وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .

وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا أخرج شطأه{[10438]} .

وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : «شَطأ » بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : «شطاه » بفتح الطاء دون همز{[10439]} ، وقرأ أبو جعفر : «شطه » رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : «شطاءه » بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : «شطوه » بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .

وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : «فأزره » على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]

بمحنية قد آزر الضال نبتها . . . بجر جيوش غانمين وخيب{[10440]}

أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره «آزره » وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]

لا مال إلا العطاف تؤزره . . . أم ثلاثين وابنة الجبل{[10441]}

وقرأ ابن كثير : «على سؤقه » بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :

لحب المؤقِدان إلي مؤسي {[10442]} وجعدة إذا أضاءهما الوقود . . .

و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .

وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .

وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض{[10443]} ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .


[10432]:حديث غرة الوضوء أخرجه البخاري في الوضوء، ومسلم في الطهارة، وأحمد في مسنده(2-362)، ولفظه كما في البخاري، عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرته فليفعل).
[10433]:هو شِمر- بكسر أوله وسكون الميم- ابن عطية الأسدي، الكاهلي، الكوفي، صدوق من السادسة.(تقريب التهذيب). وهو مضبوط في كل من الطبري والقرطبي بفتح الشين وكسر الميم "شمر".
[10434]:هو الربيع بن أنس البكري أو الحنفي، بصري، نزل خرسان، قال عنه في تقريب التهذيب:"صدوق، له أوهام، رُمي بالتشيع، من الخامسة، مات سنة أربعين أو قبلها".
[10435]:أخرجه ابن ماجه في الإقامة(المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي)، وقد ذكر المؤلف رأيه فيه.
[10436]:هو شريك-بفتح الشين-ابن عبد الله بن الحارث النخعي الكوفي، القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق، عالم بالحديث، فقيه، اشتهر بقوة ذكائه وفطنته وسرعة بديهته، استقضاه المنصور العباسي على الكوفة ثم عزله، وأعاده المهدي، وكان عادلا في قضائه فاضلا عابدا، شديدا على أهل البدع، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين.
[10437]:أي: كفَّ عن الكلام وسكت.
[10438]:روت كتب اللغة أن مُعفر بن حماد البارقي شامت ابنته برقا-يعني رأت برقا- فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال لها: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها عين جمل طريف-يعني أصابها شيء فدمعت-، فقال لها: ارعي غُنيماتك، فرعت مليا، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها- تعني أنها حمراء قد اسودت، والجلال ما تُغطى به الدابة لتصان، والمفرد جل- فقال لها: ارعي غُنيماتك، فرعت مليا، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: سمطت وابيضت- تعني: امتد سحابها وانتشر وأنها امتلأت بالماء-فقال: ادخلي غُنيماتك، فجاءت السماء بشيء شطأ له الزرع، أي أخرج ورقه وسنابله.
[10439]:قال في البحر: يحتمل أن يكون مقصورا وأن يكون أصله الهمز، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا، كما قالوا في المرأة والكمأة: المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه.
[10440]:هذا البيت من قصيدته المعروفة(خليلي مُرّا بي على أم جندب)، المحنية: حيث ينحني الوادي وعادة يكون هذا المكان خصيبا، وآزر: ساوى-وهو الشاهد هنا-، والضال: نوع من الشجر المعروف في الصحراء، مجرّ جيوش: أي أن هذه المحنية هي موضع تمر فيه الجيوش وهم ما بين غانمين أو خائبين، ولذلك فإن أحدا لا ينزل بها ليرعى عشبها وخضرتها خوفا من الجيوش، ولهذا بقيت هذه البقعة خضراء يانعة، قد ارتفع نبتها حتى ساوى شجر الضال، والبيت مع أبيات قبله يصف ثورا وحشيا يعيش في هذا المكان الخصيب الذي لم يرع نباته أحد.
[10441]:البيت في السان-جبل وعطف- وقد ذكره غير منسوب وذكر معه أبياتا أخرى، قال :أنشد أبو العباس ثعلب وغيره: لا مال العِطاف تؤزره أم ثلاثين وابنة الجبل لا يرتقي النز في ذلاذله ولا يُعري نعليه من بلل عصرته نطفة تصنمنها لصب تلقى مواقع السبل والأبيات في وصف صعلوك، يقول عنه: إنه لا يملك شيئا إلا العطاف، وأم ثلاثين، وابنة الجبل، أما العطاف فهو السيف، سمي بذلك لأنه يُسمى للإنسان رداء، والرداء هو العطاف وهو المعطف، وأم الثلاثين هي الكنانة فيها ثلاثون سهما، وأما ابنة الجبل فهي قوس من نبعة في جبل، وهو أصلب لعودها، وفي البيتين التليين يقول: إنه لا يناله نز من الأرض لأنه يأوي إلى الجبال، والعصرة: الملجأ، والنطفة:الماء، واللّصب: شق الجبل، فهو يعيش في شق من الجبل. والشاهد هنا أن قوله:"تؤزره" في البيت دليل على أن وزن"آزر" أفعل، إذ"تؤزر" هي المضارع، فالماضي أفعل، فهي مثل أكرم يكرم، ومن هنا يظهر خطأ مجاهد في قوله:إن وزنها فاعله.
[10442]:هذا صدر بيت قاله جرير من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك، والبيت بتمامه: لحب المؤقِدان إليّ مؤسى وجعدة لو أضاءهما الوقود وهو في اللسان والتاج والخصائص وسر الصناعة والمحتسب والطبري ومخطوطة أنساب الأشراف والكشاف، وقد سبق الاستشهاد به أكثر من مرة على أن الواو قد تقلب همزة إجراء لضمة ما قبلها مجرى ضمة نفسها، وقد روي:احب المؤقدين، ورواية الديوان: لحب الواقدان، ولكل رواية تخريجها، وكان موسى وجعدة مشهورين بالسخاء وإيقاد النار للقِرى، وحبّ فعل ماض أصله حبُبَ مثل كرُم، ومعناه: صار محبوبا، واللام في "لحب" جواب قسم محذوف، وكان المفروض أن يقول: لقد حب الواقدان إلي إلا أن القاعدة أن يقتصر في أفعال المدح على اللام بدون قد لعدم تصرفها، وقد أجرى لحب مجرى أفعال المدح، فهو مثل: والله لنعم الرجل زيد، والمُؤقدان هما موسى وجعدة، والوقود- بفتح الواو- ما يوقد به من الحطب، وبضم الواو مصدر بمعنى الإيقاد، ومعنى البيت: لما أضاء إيقاد النار موسى وجعدة ورأيتهما من ذوي الوضاءة والنور والبهجة صارا محبوبين لي.
[10443]:فهو مثل[من] في قوله تعالى:{فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، إذ العنى: فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، وكذلك المعنى هنا: من جنس الصحابة، وقيل:إن[من] في الآية هنا للتوكيد، كقولك: قطعت من الثوب قميصا، أي: قطعت الثوب كله قميصا، وكقوله تعالى:{وننزل من القرآن ما هو شفاء}، لأن القرآن كله شفاء.