التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (24)

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة من نعمه التى أنعمها عليهم فى رحلتهم هذه التى انتهت بصلح الحديبية فقال : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ . . } .

والمراد ببطن مكة : الحديبية ، وسميت بذلك لأنها قريبة من مكة . أى : وهو - سبحانه - الذى منع المشركين - بقدرته وحكمته من مهاجمتكم والاعتداء عليكم ، ومنعكم من مهاجمتهم وقتالهم ، فى هذا المكان القريب من مكة ، وكان ذلك بعد أن نصركم عليهم ، وجعلكم أعلى منهم فى القوة والحجة والثبات ، وكان - سبحانه - وما زال { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .

وقد ذكروا فى هذا الظفر روايات منها ما أخرجه الإِمام مسلم وغيره عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه . ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح ، من قبل جل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليهم ، فأخذوا فعفا عهم ، فنزلت هذه الآية .

فالآية الكريمة تذكير من الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، بجانب من نعمه عليهم ، ورحمته بهم . وهو تذكير يتعلق بأمور شاهدوها بأعينهم ، وعاشوا أحداثها ، وعند ما يأتى التذكير بالأمور المشاهدة المحسوسة ، يكون أدعى إلى الشكر لله - عز وجل - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (24)

18

كذلك يمن عليهم بكف أيدي المشركين عنهم ، وكف أيديهم عن المشركين من بعد ما أظفرهم على من هاجموهم . مشيرا إلى ذلك الحادث الذي أراد أربعون من المشركين أو أكثر أو أقل أن ينالوا من معسكر المسلمين . فأخذوا وعفا عنهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :

( وهو الذي كف أيديهم عنكم ، وأيديكم عنهم ببطن مكة . من بعد أن أظفركم عليهم . وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .

وهو حادث وقع ، يعرفه السامعون ؛ والله يذكره لهم في هذا الأسلوب ، ليرد كل حركة وكل حادث وقع لهم إلى تدبيره المباشر ؛ وليوقع في قلوبهم هذا الإحساس المعين بيد الله سبحانه وهي تدبر لهم كل شيء ، وتقود خطاهم ، كما تقود خواطرهم ، ليسلموا أنفسهم كلها لله ، بلا تردد ولا تلفت ، ويدخلوا بهذا في السلم كافة ، بكل مشاعرهم وخواطرهم ، واتجاههم ونشاطهم ؛ موقنين أن الأمر كله لله ، وأن الخيرة ما اختاره الله ، وأنهم مسيرون بقدره ومشيئته فيما يختارون وفيما يرفضون . وأنه يريد بهم الخير . فإذا استسلموا له تحقق لهم الخير كله من أيسر طريق . وهو بصير بهم ، ظاهرهم وخافيهم ، فهو يختار لهم عن علم وعن بصر . ولن يضيعهم ، ولن يضيع عليهم شيئا يستحقونه : ( وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .

يقول تعالى ذكره لرسوله صلى الله عليه وسلم : والذين بايعوا الرضوان ، وهو الذي كف أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحديبية يلتمسون غِرّتَهُمْ ليصيبوا منهم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم أسرى ، فخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين : وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم ، وأيديكم عنهم ببطن مكة ، من بعد أن أظفركم عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الاَثار ذكر الرواية بذلك :

حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول : أخبرنا الحسين بن واقد ، قال : ثني ثابت البناني ، عن عبد الله بن مغفل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصل شجرة بالحُدَيبية ، وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعتها عن ظهره ، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو ، وهو صاحب المشركين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ : «اكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَن الرّحِيمِ » ، فأمسك سُهَيل بيده ، فقال : ما نعرف الرحمن ، اكتب في قضيتنا ما نعرف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكْتُبْ باسْمِكَ اللّهُم » ، فكتب ، فقال : «هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة » ، وفأمسك سُهيل بيده ، فقال : لقد ظلمناك إن كنت رسولاً ، اكتب في قضيتنا ما نعرف قال : «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله » ، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ خَرَجْتُمْ فِي أمان أحَد » ، قال : فخلى عنهم ، قال : فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ منْ بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحُديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن ، وكان غصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فرفعته عن ظهره ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عليّ ، عن أبيه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : ثني من لا أتهم . عن عكرِمة ، مولى ابن عباس ، أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : ففي ذلك قال : وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . الآية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أقبل معتمرا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذلك الإظفار ببطن مكة .

حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : حدثنا عبيد الله ابن عائشة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم ، فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى آخر الآية .

وكان قتادة يقول في ذلك ما :

حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . الآية ، قال : بطن مكة الحديبية يقال له رهم : اطلع الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً ، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار ، فقال لهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «هل لكم عليّ عهد ؟ هل لكم عليّ ذمة » ، قالوا : لا فأرسلهم ، فأنزل الله في ذلك القرآن وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله : بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا .

وقال آخرون في ذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن جعفر ، عن ابن أبزي ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهدي ، وانتهى إلى ذي الحليفة ، قال له عمر : يا نبيّ الله ، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ، قال : فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرِمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مئة ، فقال لخالد بن الوليد : «يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل » ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ، فيومئذٍ سُمي سيف الله ، يا رسول الله ، ارم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل ، فلقي عكرِمة في الشّعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله وَهُوَ الّذي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله عَذَابا أليما قال : فكفّ الله النبيّ عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم .

وقوله : وكانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا يقول تعالى ذكره : وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه منها شيء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (24)

وقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم } الآية ، روي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً ، فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم ، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو «بطن مكة » . وقال قتادة : أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم ، وذلك هو «بطن مكة » . قال النقاش : الحرام كله { مكة } ، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم ، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح ، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه .

وقرأ الجمهور من القراء : «بما تعملون » بالتاء على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وحده : «بما يعملون » بالياء على ذكر الكفار وتهددهم .