ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الأحكام التى تتعلق بالصلاة وأرشدهم إلى ما يجب عليهم عند أدائها من تظهير بدنى وروحى حتى يكونوا أهلا لرضا الله وحسن قبوله ، فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( 43 )
روى المفسرون فى سبب نزول الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائى عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر ، قد شربوا الخمر . فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : قل يا أيها الكافرون . فخلط فيها . فنزلت : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } .
وروى الترمذى وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال : صنع لنا بعد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر . فأخذت الخمر منا . وحضرت الصلاة . فقدموا فلانا . قال : فقرأ : " قل يأيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون " فأنزل الله الآية .
قال ابن كثير : وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر . كما دل عليه الحديث الذى ذكرناه فى سورة البقرة عند قوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } الآية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاهما على عمر . فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة - وفى رواية لأبى داود : فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادى : لا يقربن الصلاة سكران - حتى نزل قوله - تعالى - فى سورة المائدة : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال عمر : انتهينا انتهينا .
والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء : الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام ركوع وسجود .
والمراد بقربها : القيام إليها والتلبس بها ، إلا أنه - سبحانه - نهى عن القرب منها مبالغة فى النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها .
وأصل السكر فى اللغة السد . ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته . ومنه قوله - تعالى - حكاية عن الكافرين { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أى : انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور ، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها .
والمراد بالسكر هنا الحالة التى تحصل لشارب الخمر والتى يفقد معها وعيه ، ويسد ما بين المرء وعقله .
والجنب : من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما . وهذا اللفظ يستوى فيه - على الصحيح - الواحد ، والمثنى ، والجمع ، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر ، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة .
وعابر السبيل : مجتاز الطريق وهو المسافر . أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب .
يقال : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا . ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم فى حالة السكر .
حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها ، ولا فى حال الجنابة حتى تغتسلوا ؛ إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكى تؤدوها .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا : مواضعها وهى المساجد . فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل .
والمعنى عليه : لا تقربوا مواضع الصلاة وهى المساجد وأنتم سكارى ، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها إنه يجوز لكم ذلك .
روى ابن جرير عن الليث قال : حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله - تعالى - : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد تصيبهم نابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء . ولا يجدون ممرا إلا فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } .
وقال بعض العلماء : وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله { وَأَنْتُمْ سكارى } تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقى ، من دون تقدير مضاف : وقوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقوى تقدير المضاف . أى : لا تقربوا موضع الصلاة .
ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهى - وهو قوله : { وَأَنْتُمْ سكارى } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقى .
وبعض قيود النهى - وهو قوله : إلا عابرى سبيل - يدل على أن المراد مواضع الصلاة .
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه . ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد . وهما : لا تقربوا الصلاة التى هى ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى . ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب . وغاية ما يقال فى هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز .
وفى ندائهم بصفة الإيمان ، تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإِيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين .
وقوله { وَأَنْتُمْ سكارى } جملة حالية . أى لا تقربوها فى حال السكر ، لأن ذلك يتنافى مع الإِيمان السليم ، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب . وإنما الذى يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا فى الصلاة وأنتم بكامل وعيكم ، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب .
ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القطاع لشرب الخمر فى جمع الأوقات كما سبق أن أشرنا .
وقوله { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } غاية للنهى وإيماء إلى علته .
وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى ، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة . وما فى قوله { مَا تَقُولُونَ } موصولة بمعنى الذى أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه .
أى : حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط ، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة .
قال الآلوسى : وقد روى أنهم كانوا بعدما أنزلت الآية لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون .
وقوله { وَلاَ جُنُباً } معطوف على قوله { وَأَنْتُمْ سكارى } إذ الجملة فى موضع النصب على الحال . والاستثناء فى قوله { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } مفرغ من أعم الأحوال .
وقوله { حتى تَغْتَسِلُواْ } بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب .
والاغتسال : تعميم الجسد كله بالماء . وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التى أدت إلى الجنابة . وهو كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث فى الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت . فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه ، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله .
ثم شرع - سبحانه - فى بيان الأعذار التى تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } والمراد بالمرض فى قوله - تعالى - : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } : المرض الذى يمنع من استعمال الماء مطلقا ، كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء ، فإن الله - تعالى - قد أباح للمريض فى هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل . كما أباح له - أيضا - أن يتيمم عند فقد الماء أو ما فى حكم ذلك .
وقوله : { أَوْ على سَفَرٍ } فى محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله : { مرضى } .
أى : وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء ، أو كان معكم من الماء ما أنتم فى حاجة شديدة إليه ، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء .
وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } معطوف على قوله : { كُنْتُمْ } .
والغائظ من الغيظ . وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من بريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .
وفى إسناد المجئ إلى واحد مبهم من المخاطبين ، سمو فى الخطاب ، حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما بستهجن التصريح به .
أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله .
والمراد بالملامسة فى قوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } يريد - سبحانه - : أو جامعتم النساء .
إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع ، لأنه ما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه . وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما .
وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع . أى ما سستم بشرتهن ببشرتكم . وبه استدل الشافعى على أن اللمس بنقض الوضوء .
وقال مالك : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا . . .
وذهب أبو حنيقة إلا أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة . . . والفاء فى قوله { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } . والضمير فى قوله { تَجِدُواْ } يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس . وفيه تغليب للخطاب على الغيبة . وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة فى قوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } بينما تقدم ضمير المخاطب فى قوله { كُنْتُمْ } { لاَمَسْتُمُ } .
والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى . أى أن قوله { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشئ المتعذر استعماله كالمعدوم .
وقوله { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ } .
والمعنى : وإن كنتم أيها المؤمنون فى حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا فى تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم ، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله ، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا ، بدلا من الماء ، فان الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجمع ما عدا المرضى ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله .
وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان . عدم الوجدان الحسى .
والتيمم لغة : القصد . يقال تيممت الشى أى قصدته .
ويطلق فى الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .
وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ، ترابا كان أو غيره . وقيل طلق على التراب خاصة .
والطيب : الطاهر الذى لم تلوثه نجاسة ولا قذر .
أى : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهراً بارزاً على وجه الأرض لكى تستعملوه فى طهارتكم عوضا عن الماء .
وقوله { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } بيان لكيفية التيمم .
أى : اقصدوا تراباً على ظاهر الأرض طاهراً فسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .
وقوله { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } تذييل قصد به بيان أنه - سبحانه - متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذى يسهل عليهم اداؤه من غير مشقة مرهقة ، وأنه هو الغفار الذى يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب .
هذا ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- أن من الواجب على المسلم عندما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها ، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله - تعالى ، ومن شأن المناجى لله - تعالى - أن يتفرغ لذلك ، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدى الله رب العالمين .
2- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحوا . فإذا أداها حال سكره تكون باطلة ، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر .
3- استدل بهذه الآية - من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها - على أنه يحرم على السكران دخول المسجد ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، ويقاس عليه كل ذى نجاسة يخشى معها التلويث والسياب ونحوه .
4- استدلوا بقوله - تعالى - : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه ، لأنه فى هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم . فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه " .
وروى البخارى عن أنس عن النبى صلى الله علي وسلم قال : " إذا نعس أحدكم فى الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ " .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ { سكارى } السكر من الخمر ، وإنما المراد منه سكر النوم . لأن لفظ السكر يستعمل فى النوم فكان هذا اللفظ محتملا له . . .
ثم قال الرازى : واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور هو من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ { سكارى } السكر من الخمر ، لأن لفظ السكر حقيقة فى السكر من شرب الخمر ، والأصل فى الكلام الحقيقة . . . ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت فى شرب الخمر . . .
5- استدلوا بقوله - تعالى { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ } على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، إلا أنه يجوز له المرور فيه .
قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس فى قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابرى سبيل . أى : تمر به مراً ولا تجلس .
وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب فى قوله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجلا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون مروراً إلى فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ويشهد لصحة ذلك ما ثبت فى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" سدوا كل خوخة فى المسجد إلا خوخة أبى بكر . . "
وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضاً متى أمنت كل واحدة منهما التلويث فى حال المرور . . .
ثم قال ابن كثير : وقوله { حتى تَغْتَسِلُواْ } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله . وذهب الإِمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث فى المسجد ، لما روى من أن صحابه كانوا يفعلون ذلك . وعن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون فى المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
6- ظاهر قوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء ، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء .
ولكن هذا الظاهر غير مراد ، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء ، وكنا فى حاجة شديدة إليه ، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم ، وهذا بتعارض مع سماحه الشريعة الإِسلامية ويسرها ، قال - تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس ، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء فى الطهارة ليقعوا فى العنت بسبب العطش أو الجوع . أو بإلزامهم استعمال الماء فى طهارتهم مع أن فى استعماله مضرة بهم .
لهذا قال العلماء : إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء ، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه .
ولقد ورد فى السنة الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله .
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطنى عن جابر قال : " خرجنا فى سفر . فأصاب رجلا منا حجر فشجه فى رأسه . ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لى رخصة فى التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات . فلما قدمنا على النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بدلك فقال : قتلوه ، قتلهم الله ، هلا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العى السؤال . إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده " .
وروى أبو داود والدارقطنى عن عمرو بن العاص قال :
" احتلمت فى ليلة باردة فى غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك . فتيممت . ثم صليت بأصحابى الصبح . فذركوا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو صليت باصحابى وأنت جنب " ؟ فأخبرته بالذى منعنى من الاغتسال وقلت : إنى سمعت الله يقول : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا " .
قال القرطبى - بعد أن ساق هذا الحديث والذى قبله - فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض - عند استعمال الماء - : وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم ، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين . وهذا أحد القولين عندنا . وهو الصحيح الذى أقره مالك مالك فى موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .
وقال ابن كثير : وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء . فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب فى كتب الفروع . .
7- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله - تعالى - { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } : أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب ولأنه ثبت فى صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة . وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا . وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " قالوا : فخصص الطهور بالتراب فى مقام الامتنان . فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .
ويرى الإِمام أبو حنيفة التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
وتوسع الإِمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجرة والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض .
قال القرطبى عند حديثه عن اختلاف الفقهاء فى ذلك : وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإِجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب . ومكان الإِجماع فى المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما . أو على النجاسات . واختلف فى غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره . ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره . . .
8- أفاد قوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } أن الواجب فى التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أو عن الغسل .
قال القرطبى : وروى التيمم إلى المرفقين عن النبى صلى الله عليه وسلم جابر عن عبد الله ، وابن عمر وبه كان يقول : قال الدارقطنى : سئل قتادة عن التيمم فى السفر فقال : كان ابن عمر يقول : إلى المرفقين .
وكان الحسن وإبراهيم النخعى يقولان : إلى المرفقين .
ثم قال : وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان . روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبى فى رواية . وبه قال أحمد ابن حنبل ، والطبرى .
وقال مكحول : اجتمعت أنا والزهرى فتذاكرنا التيمم فقال الزهرى : المسح إلى الآباط .
وقال ابن أبى الجهم : التيمم بضربة واحدة ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبرى .
9- ذكر المفسرون فى سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : خرجنا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره : حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقدلى . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه . وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . فجاء أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام . فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . قالت عائشة : فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول . فجعل يطعننى بيده فى خاصرتى فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء . فأنزل الله آية التيمم . فتيمموا . فقال أسيد بن الحضير : ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر .
قالت : فبعثنا البعير الذى كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعيته التيمم ، وإنما ذكرنا ذلك ههنا ، لأن هذه الآية التى فى النساء متقدمة فى النزول على آية سورة المائدة وبيانه : أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر . والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير ، فى محاصرة النبى صلى الله عليه وسلم لبنى النضير . وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها . فناسب أن يذكر السبب هنا .
10- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عروضا عن الطهارة بالماء فقال : والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما فى حديث جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى - فذكر منها - وعلت لى الأرض مسجدا وطهورا " .
والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة . ولم أر لأحد من العلماء بيانا فى حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء ، وكان ذلك من همى زمنا طويلا وقت الطلب .
وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة فى نفوس المؤمنين . وتقرير حرمة الصلاة وترفيع شأنها فى نفوسهم . فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله - تعالى - فلذك شرع لهم عملا يشبه الإِيمان إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التى هى منبع الماء . ولأن التراب مستعمل فى تطهير الآنية ونحوها ، ينطقون به ما علق لهم من الأقذار فى ثيابهم وأبدانهم وما عونهم . وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك ، مع ما فى ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه . وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين فى الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت فى الصحيح " عن عمار بن ياسر قال : كنت فى سفر فأجنبت فتمعكت فى التراب " أى تمرغت " وصليت . فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : " يكفيك الوجه والكفان " ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء فى غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم .
هذا منتهى ما عرض لى من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل فى حكمة مقنعة فى النظر .
وبعد ، فهذه بعض الأحكام والآداب التى اشتملت عليها تلك الآية ، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم ، ويصفى نفوسهم ، ويبعدهم عن الأسباب التى تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين ، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله .
كما ترى كيف استعملت فى خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات ؛ وأسمى التعبيرات ، وأبلغ الإِشارات ، وفى ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون فى نياهم وآخرتهم .
هذا ، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا ، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإِسلامى تنظيما حكيما ، وساقت لهم من التوجيات السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الجليلة . . . ما يجعلهم يعيشون فى أمان واطمئنان .
ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا فى أكثر من عشر آيات ، ألوانا من رذائل أهل الكتاب ، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية ، ومن حسدهم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام . . .
وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به . . والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة . وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها ، وأحكام الطهارة الممهدة لها :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . وإن كنتم مرضى أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورا )
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة ؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته ؛ وللمجتمع الفارسي أيضا . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته ! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى !
في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لترا . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان ؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة . . ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة ! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط ! وبعد ذلك يباح شرب " النبيذ والبيرة " فحسب ! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . . !
أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون " الجفاف " ! من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع " الري " بالخمر ! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة . وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه . وقد أعدم فيها 300 نفس ؛ وسجن كذلك 335ر532 نفسا . وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه . وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه . . وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي . . ببضع آيات من القرآن .
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني . . بين منهج الله ، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء !
ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي ، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ؛ حيث نجد " الخمر " عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها .
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر ، أن أصبحت كلمة التجارة ، مرادفة لبيع الخمر . . يقول لبيد :
قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها
إذا أسحب الريط والمروط إلى أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب ، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي ، وتطبعه طابعا ظاهرا . يقول امرؤ القيس :
( وأصبحت ودعت الصبا غير % أنني أراقب خلات من العيش أربعا )
( فمنهن قولي للندامى : تفرفقوا % يداجون نشاجا من الخمر مترعا )
( ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا % يبادرن سربا آمنا أن يفزعا )
( فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى % وجدك لم أحفل متى قام عودي )
فمنهن سبقي العاذلات بشربة % كميت متى ما تعل بالماء تزبد )
( وما زال تشرابي الخمور ولذتي % وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي )
( إلى أن تحامتني العشيرة كلها % وأفردت إفراد البعير المعبد )
( فقد أشرب الراح قد تعلمين % يوم المقام ويوم الظعن )
( وأشرب بالريف حتى يقال % قد طال بالريف ما قد دجن )
( ولقد شربت من المدامة % بالصغير وبالكبير )
( فإذا سكرت فإنني % رب الخورنق والسدير )
( وإذا صحوت فإنني % رب الشويهة والبعير )
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي . .
ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث . . وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبدالرحمن بن عوف . . وأمثال هذا الطراز من الرجال . . تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية . وتكفي عن الوصف المطول المفصل :
يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه . . في رواية . . " كنت صاحب خمر في الجاهلية . فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب . . . "
وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام . حتى إذا نزلت آية : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . . قال : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . واستمر . . حتى إذا نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . قال : اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر ! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) . . قال : انتهينا انتهينا ! وانتهى . .
وفي سبب نزول هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .
روى ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات . صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار . فأكلنا وشربنا ، حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير [ عظم الفك ] فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف . وذلك قبل تحريم الخمر . فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) . . والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبى عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : " صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلانا قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون ! فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات ؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي . فهي كانت والميسر ، الظاهرتين البارزتين ؛ المتداخلتين ، في تقاليد هذا المجتمع . .
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة ؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة ، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا ؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصلية قديمة ، تتعلق بها تقاليد اجتماعية ؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية ؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن ؛ وعلى مراحل ، وفي رفق وتؤدة . وكسب المعركة . دون حرب . ودون تضحيات . ودون إراقة دماء . . والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواهم . ولم يبلعوها . كما سيجيء !
في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان . . إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر . تدرك من ثنايا العبارة . وهي مجرد إشارة :
جاء في سورة النحل : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنًا ) . . فوضع " السكر " وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب ، وفي مقابل الرزق الحسن ! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء . والرزق " الحسن " شيء آخر . . وكانت مجرد لمسة من بعيد ؛ للضمير المسلم الوليد !
ولكن عادة الشراب ، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية . كان تقليدا اجتماعيا ، له جذور اقتصادية . . كأن أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة .
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان . . لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان . إنما كان أولا سلطان القرآن . .
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ، وفي خبرة بالنفس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية . .
بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس . . وإثمهما أكبر من نفعهما . . )
وكانت هي الطرقة الأولى ، ذات الصوت المسموع . . في الحس الإسلامي ، وفي الضمير الإسلامي ، وفي المنطق الفقهي الإسلامي . . فمدار الحل والحرمة . . أو الكراهية . . على رجحان الإثم أو رجحان الخير ، في أمر من الأمور . . وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما . . فهذا مفرق الطريق . .
ولكن الأمر كان أعمق من هذا . . وقال عمر - رضي الله عنه - : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . عمر ! ! ! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي !
ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون ) . .
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل . .
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة ، بين التنفير من الخمر ، لأن إثمها أكبر من نفعها ، وبين التحريم البات ، لأنها رجس من عمل الشيطان . وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة : هي " قطع عادة الشراب " أو " كسر الإدمان " . . وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة . وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار . وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ ! حتى يعملوا ما يقولون ! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق . . صباحا ومساء . . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة . . وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب . . وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة . .
ومع ذلك . . فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر ! ! ! - " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . .
ثم مضى الزمن . ووقعت الأحداث . وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة . فنزلت الآيتان في المائدة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ ) . .
وانتهى المسلمون كافة . وأريقت زقاق الخمر ، وكسرت دنانها في كل مكان . . بمجرد سماع الأمر . . ومج الذين كان في أفواهم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم وهم شاربون . .
لقد انتصر القرآن . وأفلح المنهج . وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان ! ! !
ولكن كيف كان هذا ؟ كيف تمت هذه المعجزة ، التي لا نظير لها في تاريخ البشر ؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان ، ولا في أي زمان ؟
لقد تمت المعجزة ، لأن المنهج الرباني ، أخذ النفس الإنسانية ، بطريقته الخاصة . . أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان . . أخذها جملة لا تفاريق . . وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة . .
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء . . في الهواء . .
ملأ فراغها باهتمامات . منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها ، من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرهاالمتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة ، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة !
وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان . بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج . فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر ، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير ! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء . . وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله . . وتذوق طعم هذا القرب ، فتمج طعم الخمر ونشوتها ؛ وترفض خمارها وصداعها ؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية !
إنه استنفذ الفطرة من ركام الجاهلية ؛ وفتحها بمفتاحها ، الذي لا تفتح بغيره ؛ وتمشى في حناياها وأوصالها ؛ وفي مسالكها ودروبها . . ينشر النور ، والحياة ، والنظافة ، والطهر ، واليقظة ، والهمة ، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير ، والخلافة في الأرض ، على أصولها ، التي قررها العليم الخبير ، وعلى عهد الله وشرطه ، وعلى هدى ونور . .
إن الخمر - كالميسر . كبقية الملاهي . كالجنون بما يسمونه " الألعاب الرياضية " والإسراف في الاهتمام بمشاهدها . . كالجنون بالسرعة . . كالجنون بالسينما . . كالجنون " بالمودات " " والتقاليع " . . كالجنون بمصارعة الثيران . . كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم ، جاهلية الحضارة الصناعية !
إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي . . من الإيمان أولا . . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا . . وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية . . ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا . . وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى " الجنون " المعروف ، وإلى المرض النفسي والعصبي . . وإلى الشذوذ . .
إنها لم تكن كلمات . . هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة . . إنما كان منهج . منهج هذه الكلمات متنه وأصله . منهج من صنع رب الناس . لا من صنع الناس ! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير !
إنه ليست المسألة أن يقال كلام ! فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أو فلان من الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين ! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا ، أو مذهبا ، أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائر الناس تتلقاه ، بلا سلطان . لأنه ( ما أنزل الله به من سلطان ) ! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور !
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج ، غير منهج العليم الخبير ؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير ؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير ؟
متى ؟ متى ينتهون عن هذا الغرور ؟ ؟ ؟
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . . . )
كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى - حتى يعلموا ما يقولون - كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا . .
وتختلف الأقوال في المقصود من ( عابري سبيل ) كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه . .
فقول : إن المقصود هو عدم قرب المساجد ، أو المكث فيها ، لمن كان جنبا ، حتى يغتسل . إلا أن يكون عابرا بالمسجد مجرد عبور . وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول [ ص ] وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت . فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال .
وقول : إن المقصود هو الصلاة ذاتها . والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - مالم يكن مسافرا . فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم . الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء . .
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه . لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك . فتفسير عابري سبيل - بالمسافرين ، ينشيء تكرارا للحكم في الآية الواحدة ، لا ضرورة له : ( وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيدا طيبا . فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورًا ) . .
فهذا النص يشمل حالة المسافر - عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنبا في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر ، فيكون في حاجة إلى الوضوء ، لأداء الصلاة .
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضا ، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط [ والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه ، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل ] فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء . أو بمن لامس النساء . .
وفي( لامستم النساء ) . . أقوال كذلك :
قول : إنه كناية عن الجماع . . فهو يستوجب الغسل .
وقول : إنه يعني حقيقة اللمس . . لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة . . وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب ، ولا يستوجبه في بعضها . بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالا :
" أ " اللمس يوجب الوضوء إطلاقا .
" ب " اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس . وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس .
" ج " اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة .
" د " اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقا ، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة . .
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول [ ص ] . . على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع .
والذي نرجحه في معنى ( او لامستم النساء )أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل . وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء . .
وفي جميع هذه الحالات المذكورة ، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة . . حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضارا أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء : التيمم . وقد جاء اسمه من نص الآية .
أي فاقصدوا صعيدا طيبا . . طاهرا . . والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب . أو حجر . أو حائط . ولو كان التراب مما على ظهر الدابة . أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير . متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به .
وطريقة التيمم : إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر . ثم نفضهما . ثم مسح الوجه . ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما . . وإما خبطتان : خبطة يمسح بها الوجه ، وخبطة يمسح بها الذراعان . . ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا . . فهذا الدين يسر ، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا :
وهو التعقيب الموحي بالتيسير . وبالعطف على الضعف ، وبالمسامحة في القصور . والمغفرة في التقصير . .
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس . . نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة : نقف أمام " حكمة التيمم " نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها . .
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية ، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام ؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة ؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء ! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية . . ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا . . وأولى : أن نقول دائما : إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم . وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها ! وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية . بدون إفراط ولا تفريط . .
أقول هذا ، لأن بعضنا - ومنهم المخصلون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس ، ومعها حكمة محددة ، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه " العلم الحديث " ! وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة .
وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة . .
وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء . ولكن الجزم بأنه هو . . وهو دون غيره . . هو المنهج غير السليم . وغير المأمون أيضا :
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين : لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية : فالنظافة الآن موفورة . والناسيجعلونها في برنامج حياتهم اليومي . فإذا كانت هذه هي " حكمة الوضوء " فلا داعي للوضوء إذن للصلاة ! بل . . لا داعي للصلاة أيضا ! !
وكثيرا ما ذكر عن " حكمة الصلاة " . . تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام : أولا في مواقيتها . وثانيا في حركاتها . وثالثا في نظام الصفوف والإمامة . . الخ . وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة . . وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا . . ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك او ذلك هو " حكمة الصلاة " يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون .
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه : إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية . فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون !
وقال بعضهم : ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام . فعندنا الجندية - مجال النظام الأكبر . وفيها غناء ! وقال بعضهم : لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة . فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح ، التي قد تعطل الاستشراف الروحي !
وهكذا . . إذا رحنا " نحدد " حكمة كل عبادة . وحكمة كل حكم . ونعلله تعليلًا وفق( العقل البشري )أو وفق " العلم الحديث " ثم نجزم بأن هذا هو المقصود . . فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه . كما نبعد كذلك عن الحد المأمون . ونفتح الباب دائما للمماحكات . فوق ما تحتملة تعليلاتنا من خطأ جسيم . وبخاصة حين نربطها بالعلم . والعلم قلب لا يثبت على حال . وهو كل يوم في تصحيح وتعديل !
وهنا في موضوعنا الحاضر ! موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل ، ليست هي " مجرد " النظافة . وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما ، لا يحقق هذه " الحكمة " ! فلا بد إذن من حكمة " أخرى " للوضوء أو الغسل . تكون متحققة كذلك في " التيمم " .
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم ! ولكننا نقول فقط : إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله ، بعمل ما ، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية ، وبين اللقاء العظيم الكريم . . ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل او مكان الوضوء . .
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف ؛ بدخائل النفوس ، ومنحنياتها ودروبها ، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير . . ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير . .
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة ؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات . وتذليل هذه المعوقات . والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء ، ومحل الغسل ، أو محلهما معا ، عند تعذر وجود الماء ؛ أو عند التضرر بالماء [ أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة ] وكذلك عند السفر [ حتى مع وجود الماء في أقوال ] . .
إن هذا كله يدل - بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف - في ميدان القتال - على حرص شديد من المنهج الرباني ، على الصلاة . . بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب [ ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدي الصلاة من قعود ، أو من اضطجاع ، أو من نوم . وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف ! ]
إنها هذه الصلة بين العبد والرب . الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها . لأنه - سبحانه - يعلم ضرورتها لهذا العبد . فالله سبحانه غني عن العالمين . ولا يناله من عبادة العباد شيء . إلا صلاحهم هم . وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله ، من العون على تكاليفهم ، والاسترواح لقلوبهم ، والاطمئنان لأرواحهم . والإشراق في كيانهم ؛ والشعور بأنهم في كنف الله ، وقربه ، ورعايته ، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم . . والله أعلم بفطرتهم هذه ، وبما يصلح لها وما يصلحها . . وهو أعلم بمن خلق . وهو اللطيف الخبير .
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير :
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . فلا يقول : إذا عملتم كذا وكذا . . بل يكتفي بالعودة من هذا المكان ، كناية عما تم فيه ! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين . فلا يقول : أو جئتم من الغائط . بل يقول : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) زيادة في أدب الخطاب ، ولطف الكناية . ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون !
وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله : ( أو لامستم النساء ) والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس ، في الحديث عن مثل هذه الشؤون . عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف .
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر ، بأنه الصعيد الطيب . ليشير إلى أن الطاهر طيب . وأن النجس خبيث . . وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس . .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مّرْضَىَ أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } صدّقوا الله ورسوله { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ } : لا تصلوا { وأَنْتُمْ سُكَارَى } وهو جمع سكران ، { حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ } في صلاتكم ، وتقرءون فيها مما أمركم الله به ، أو ندبكم إلى قيله فيها مما نهاكم عنه وزجركم .
ثم اختلف أهل التأويل في السكر الذي عناه الله بقوله : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } فقال بعضهم : عنى بذلك : السكر من الشراب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي : أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن ، فقرأ : «قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ » فخلط فيها ، فنزلت : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، فقدّموا عليّا يصلي بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين . فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الاَية : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } قبل أن تحرم الخمر ، فقال الله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين في قوله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } قال : نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فقال : وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين ، قال : كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في البقرة ، وبعد التي في النساء ، فلما أنزلت التي في المائدة تركوها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ } قال : نهوا أن يصلوا وهم سكارى ، ثم نسخها تحريم الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } قال : كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ، ثم نسخ بتحريم الخمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي وائل وأبي رزين وإبراهيم في قوله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } و{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما } ، وقوله : { تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا } قالوا : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى من النوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } قال : سكر النوم .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سلمة ، عن الضحاك : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى } قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الاَية ، تأويل من قال ذلك : نهى من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر ، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك نهي من الله ، وأن هذه الاَية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه .
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك معناه ، والسكران في حال زوال عقله نظير المجنون في حال زوال عقله ، وأنت ممن تُحِيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم بما يؤمر وينهى ؟ قيل له : إن السكران لو كان في معنى المجنون لكان غير جائز أمره ونهيه ، ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذر ، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأحرّ جسمه وأخدره ، حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته وحدودها الواجبة عليه فيها من غير زوال عقله ، فهو بما أمر به ونهي عنه عارف فهِم ، وعن أداء بعضه عاجز بخدر جسمه من الشراب . وأما من صار إلى حدّ لا يعقل ما يأتي ويذر ، فذلك منتقل من السكر إلى الخبل ، ومعدود في المجانين ، وليس ذلك الذي خوطب بقوله : { لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ } لأن ذلك مجنون ، وإنما خوطب به السكران ، والسكران ما وصفنا صفته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها جنبا إلا عابري سبيل ، يعني : إلا أن تكونوا مجتازى طريق : أي مسافرين حتى تغتسلوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : المسافر . وقال ابن المثنى : لفي السفر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ، إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء ، فقد أحللت لكم أن تمسّحوا بالأرض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن عباد بن عبد الله ، أو عن زرّ ، عن عليّ رضي الله عنه : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : إلا أن تكونوا مسافرين فلا تجدوا الماء فتيمموا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : المسافر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : نزلت في السفر : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } وعابر السبيل : المسافر إذا لم يجد ماء تيمم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا هارون ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم فيصلي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : هو الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون صعيدا طيبا ، حتى يجدوا الماء فيغتسلوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : مسافرين لا يجدون ماء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن بكير بن الأخنس ، عن الحسن بن مسلم ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : إلا أن يكونوا مسافرين ، فلا يجدوا الماء فيتيمموا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عمرو ، عن منصور ، عن الحكم : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : المسافر تصيبه الجنابة ، فلا يجد ماء فيتيمم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير ، وعن منصور ، عن الحكم في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قالا : المسافر الجنب لا يجد الماء فيتيمم فيصلي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } إلا أن يكون مسافرا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الحكم ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : كنا نسمع أنه في السفر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : هو المسافر الذي لا يجد الماء فلا بدّ له من أن يتيمم ويصلي ، فهو يتيمم ويصلي . قال : كان أبي يقول هذا .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوه جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل ، يعني : إلا مجتازين فيه للخروج منه . فقال أهل هذه المقالة : أقيمت الصلاة مقام المصلّى والمسجد ، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجميع فيها ، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلّى الذي يصلون فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : هو الممرّ في المسجد .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن يسار ، عن ابن عباس : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه ، فتمرّ مرّا ولا تجلس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سعيد في الجنب يمرّ في المسجد مجتازا وهو قائم لا يجلس وليس بمتوضىء ، وتلا هذه الاَية : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد ما لم يجلسا فيه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو الزبير ، قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد وهو جنب مجتازا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : الجنب يمرّ في المسجد ولا يقعد فيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : إذا لم يجد طريقا إلا المسجد يمرّ فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم في هذه الاَية : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } قال : لا بأس أن يمرّ الجنب في المسجد إذا لم يكن له طريق غيره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه ، ثم قرأ : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن أبي عبيدة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن ، قال : لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد ولا يقعدا فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن الزهري ، قال : رخص للجنب أن يمرّ في المسجد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يزيد بن أبي حبيب ، عن قول الله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم ، فيريدون الماء ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا يجتاز في المسجد إلا أن لا يجد طريقا غيره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، لا يمرّ الجنب في المسجد يتخذه طريقا .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوّله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } : إلا مجتازي طريق فيه . وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساء فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا } ، فكان معلوما بذلك أن قوله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . والعابر السبيل : المجتازه مرّا وقطعا ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ، ومنه قيل : عبر فلان النهر : إذا قطعه وجازه ، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار لقوتها : وهي عبْرُ أسفار لقوتها على الأسفار .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } : من جرح أو جدري وأنتم جنب . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو المنبه الفضل بن سليم ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، قوله : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ } قال : المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح ، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل ، والجريح لا يحلّ جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن شريك ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي مالك ، قال في هذه الاَية : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ } قال : هي للمريض الذي به الجراحة التي يخاف منها أن يغتسل فلا يغتسل ، فرخص له في التيمم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } والمرض : هو الجراح والجراحة التي يتخوّف عليها من الماء إن أصابه ضَرّ صاحبه ، فذلك يتيمم صعيدا طيبا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : إذا كان به جروح أو قروح يتيمم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : من القروح تكون في الذراعين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : القروح في الذراعين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : صاحب الجراحة التي يخوّف عليه منها يتيمم . ثم قرأ : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } والمرض : أن يصيب الرجل الجرح أو القرح أو الجدري ، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه ، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن عاصم ، يعني الأحول ، عن الشعبي ، أنه سئل عن المجدور تصيبه الجنابة ؟ قال : ذهب فرسان هذه الاَية .
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا } قال : المريض الذي لا يجد أحدا يأتيه بالماء ولا يقدر عليه ، وليس له خادم ، ولا عون ، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به ، ولا يحبوا إليه ، تيمم وصلى إذا حلت الصلاة . قال : هذا كله قول أبي : إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به لا يترك الصلاة ، وهو أعذر من المسافر .
فتأويل الاَية إذا : وإذ كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة ، وأنتم مقيمون غير مسافرين ، فتيمموا صعيدا طيبا .
وأما قوله : { أوْ على سَفَرٍ } إو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب ، فتيمموا صعيدا . وكذلك تأويل قوله : { أوْ جاءَ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ } يقول : أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح ، فليتيمم صعيدا طيبا . والغائط : ما اتسع من الأودية وتصوّب ، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان ، لأن العرب كانت تختار قضاء حاجتها في الغيطان فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك ، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تُقْضى في الغيطان حيث قضاها من الأرض : متغوّط ، جاء فلان من الغائط يعني به : قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض . وذكر عن مجاهد أنه قال في الغائط : الوادي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ } قال : الغائط : الوادي .
القول في تأويل قوله تعالى : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أو باشرتم النساء بأيديكم .
ثم اختلف أهل التأويل في اللمس الذي عناه الله بقوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } فقال بعضهم : عَنَى بذلك : الجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع ، وقال ناس من العرب : اللمس : الجماع . قال : فأتيت ابن عباس ، فقلت : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي : ليس بالجماع ، وقالت العرب : الجماع . قال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي ، قال : غلب فريق الموالي ، إن المسّ واللمس ، والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي قيس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس أنه قال : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } قال : هو الجماع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلفت أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } فقال عبيد بن عمير : هو الجماع ، وقلت أنا وعطاء : هو اللمس . قال : فدخلنا على ابن عباس ، فسألناه ، فقال : غلب فريق الموالي وأصابت العرب ، هو الجماع ، ولكن الله يعفّ ويكني .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير : اختلفوا في الملامسة ، فقال سعيد بن جبير وعطاء : الملامسة ما دون الجماع . وقال عبيد : هو النكاح . فخرج عليهم ابن عباس ، فسألوه ، فقال : أخطأ الموليان وأصاب العربيّ : الملامسة : النكاح ، ولكن الله يكني ويعفّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، قال : قال : سعيد بن جبير وعطاء في التماس : الغمز باليد ، وقال عبيد بن عمير : الجماع . فخرج عليهم ابن عباس فقال : أخطأ الموليان ، وأصاب العربيّ ، ولكنه يعفّ ويكني .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : قال ابن عباس : اللمس : الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية وعبد الوهاب ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس والمسّ والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني بما شاء .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني عما شاء .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلفت العرب والموالي في الملامسة على باب ابن عباس قالت العرب : الجماع ، وقالت الموالي : باليد . قال : فخرج ابن عباس ، فقال : غُلب فريق الموالي ، الملامسة : الجماع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنا على باب ابن عباس ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير ، قال : قعد قوم على باب ابن عباس ، فذكر نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } الملامسة : هو النكاح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : اجتمعت الموالي والعرب في المسجد وابن عباس في الصّفّة ، فاجتمعت الموالي على أنه اللمس دون الجماع ، واجتمعت العرب على أنه الجماع ، فقال ابن عباس : من أيّ الفريقين أنت ؟ قلت : من الموالي ، قال : غُلبت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس : الجماع .
وبه عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : هو الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } قال : الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك ، عن خصيف ، قال : سألت مجاهدا ، فقال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والحسن ، قالا : غشيان النساء .
وقال آخرون : عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان . وأوجبوا الوضوء على من مسّ بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله ، أنه قال شيئا هذا معناه : الملامسة : ما دون الجماع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن هلال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله أو عن أبي عبيدة منصور الذي شكّ قال : القبلة من المسّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله ، قال : اللمس : ما دون الجماع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال ابن مسعود : اللمس : ما دون الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : القبلة من اللمس .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال القبلة من اللمس ، وفيها الوضوء .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، مثله .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : أخبرنا سليم بن أخضر ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة ، عن قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } قال : فأشار بيده هكذا وحكاه سليم وأراناه أبو عبد الله ، فضمّ أصابعه .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة ، عن قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } قال بيده ، فظننت ما عنى فلم أسأله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : ذكروا عند محمد مسّ الفرج ، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك ، فقال محمد : قلت لعبيدة ، قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } فقال بيده . قال ابن عون : بيده كأنه يتناول شيئا يقبض عليه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد ، عن محمد ، قال : قال عبيدة : اللمس باليد .
قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة ، عن هذه الاَية : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } فقال بيده ، وضمّ أصابعه ، حتى عرفت الذي أراد .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبيد الله بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللّماس .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، قال : الملامسة : ما دون الجماع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا مُحِلّ بن محرز ، عن إبراهيم ، قال : اللمس من شهوة ينقض الوضوء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم وحماد أنهما قالا : اللمس ما دون الجماع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عطاء ، قال : الملامسة : ما دون الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الشعبيّ ، عن أصحاب عبد الله ، عن عبد الله ، قال : الملامسة : ما دون الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عامر ، عن عبد الله ، قال : الملامسة : ما دون الجماع .
قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : الملامسة : ما دون الجماع ، ثم قرأ : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } فقال بيده هكذا ، فعرفت ما يعني .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه وحسن بن صالح ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي عبيدة ، قال : القبلة من اللمس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن زهير ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة : القبلة والشيء .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ .
حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل ، ثم يصلي ولا يتوضأ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ » ، قلت : من هي إلا أنتِ ؟ فضحكت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه كان يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ » .
حدثنا أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا شهاب بن عباد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة . وعن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ، قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء » .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني يزيد بن سنان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أمّ سلمة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءا » .
ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع لمس الجماع لا جميع معاني اللمس ، كما قال الشاعر :
وهُنّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا ***إنْ تصْدُقِ الطّيرُ نَنِكَ لَمِيسا
وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة وهم جراح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن جابر ، عن حماد ، عن إبراهمي في المريض لا يستطيع الغسل من الجنابة أو الحائض ، قال : يجزيهم التيمم ، ونال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحة ، ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ } . . . الاَية كلها .
وقال آخرون : نزلت في قوم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أعوزهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبيد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عائشة أنها قالت : كنت في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كنا بذات الجيش ، ضَلّ عقدي ، فأخبرت بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالتماسه ، فالتمس فلم يوجد . فأناخ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأناخ الناس ، فباتوا ليلتهم تلك¹ فقال الناس : حبست عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم ! قالت : فجاء إليّ أبو بكر ، ورأس النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجري وهو نائم ، فجعل يهمزني ويقرصني ويقول : من أجل عقدك حبست النبيّ صلى الله عليه وسلم ! قالت : فلا أتحرّك مخافة أن يستيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني فلا أدري كيف أصنع . فلما رآني لا أحير إليه انطلق¹ فلما استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء . قالت : فأنزل الله تعالى آية التيمم . قالت : فقال ابن حضير : ما هذا بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر ، ففقدت عائشة قلادة لها ، فأمر الناس بالنزول ، فنزلوا وليس معهم ماء ، فأتى أبو بكر على عائشة ، فقال لها : شققت على الناس ! وقال أيوب بيده يصف أنه قرصها قال : ونزلت آية التيمم ، ووجدت القلادة في مناخ البعير ، فقال الناس : ما رأينا امرأة أعظم بركة منها .
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : ثني عمران بن محمد الحداد ، قال : ثني الربيع بن بدر ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن رجل منا من بَلَعْرَج يقال له : الأسلع ، قال : كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأرْحَلُ له ، فقال لي ذات ليلة : «يا أسْلَعْ قُمْ فارْحَلْ لي ! » قلت : يا رسول الله أصابتني جنابة . فسكت ساعة ، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد ، ووصف لنا ضربتين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ، قال : ثني الربيع بن بدر ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن رجل منا يقال له الأسلع ، قال : كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أو قال ساعة الشكّ من عمرو قال : وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُمْ يا أسْلَعُ فَتَيَمّمْ ! » قال : فتيممت ثم رحلت له . قال : فسرنا حتى مررنا بماء فقال : «يا أسْلَعُ مَسّ أو أمِسّ بهذا جلدك ! » قال : وأراني التيمم كما أراه أبوه : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن نفيل ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : ثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان أبو عمرو حاجب عائشة : أن ابن عباس دخل عليها في مرضها ، فقال : أبشري كنت أحبّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ إلا طيبا ، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها ، حتى أصبح في المنزل ، فأصبح الناس ليس معهم ماء ، فأنزل الله : { تيمّمُوا صَعيدا طيّبا } فكان ذلك من سببك ، وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها ، فوجدوها . وأدركتهم الصلاة ، وليس معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية التيمم¹ فقال أسيد بن حضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنها قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون إلى المدينة ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري راقد ، أقبل أبي ، فلكزني لكزة ، ثم قال : حبست الناس . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ، وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجد ، ونزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ } . . . الاَية . قال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة .
حدثني الحسن بن شبيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : دخل ابن عباس على عائشة ، فقال : كنت أعظم المسلمين بركة على المسلمين سقطت قلادتك بالأبواء ، فأنزل الله فيك آية التيمم .
واختلف القراء في قراءة قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } . فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : { أوْ لامَسْتُمُ } بمعنى : أو لمستم نساءكم ولمستكم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : «أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ » بمعنى : أو لمستم أنتم أيها الرجال نساءكم . وهما قراءتان متقاربتا المعنى ، لأنه لا يكون الرجل لامسا امرأته إلا وهي لامسته ، فاللمس في ذلك يدلّ على معنى اللماس ، واللماس على معنى اللمس من كل واحد منهما صاحبه ، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارىء فمصيب ، لاتفاق معنييهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْم تَجدوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فلم تَجِدُوا مَاءً } أو لمستم النساء ، فطلبتم الماء لتتطهروا به ، فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن ، { فَتَيَمّمُوا } يقول : فتعمدوا ، وهو تفعلوا من قول القائل : تيممت كذا : إذا قصدته وتعمدته فأنا أتيممه ، وقد يقال منه : يممه فلان فهو ييممه ، وأيممته أنا وأممته خفيفة ، وتيممت وتأممت ، ولم يسمع فيها يممت خفيفة . ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
تَيَمّمْتُ قَيْسا وكَمْ دُونَهُ ***منَ الأرْضِ منْ مَهْمَه ذي شَزَنْ
يعني بقوله : تيممت : تعمدت وقصدت ، وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله : «فأُمّوا صعيدا » .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبدان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : { فَتيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا } قال : تحرّوا وتعمدوا صعيدا طيبا .
وأما الصعيد ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { صَعِيدا طَيّبا } قال : التي ليس فيها شجر ولا نبات .
وقال آخرون : بل هو الأرض المستوية . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الصعيد : المستوي .
وقال آخرون : بل الصعيد : التراب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، قال : الصعيد : التراب .
وقال آخرون : الصعيد : وجه الأرض .
وقال آخرون : بل هو وجه الأرض ذات التراب والغبار .
وأولى ذلك بالصواب قول من قال : هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية ، ومنه قول ذي الرمة :
كأنّهُ بالضّحَى يَرْمي الصّعِيدَ بهِ ***دَبّابَةٌ فِي عِظامِ الرأسِ خُرْطُومُ
وأما قوله طيبا ، فإنه يعني به : طاهرا من الأقذار والنجاسات .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { طَيّبا } فقال بعضهم : حلالاً . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : { صَعيدا طَيّبا } قال : قال بعضهم : حلالاً .
حدثني عبد الله ، قال : حدثنا عبدان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، قال : قلت لعطاء : { فتيمّمُوا صَعيدا طيّبا } قال : الطيب : ما حولك . قلت : مكان جَرْدٌ غير أبطح ، أيجزىء عني ؟ قال : نعم .
ومعنى الكلام : فإن لم تجدوا ماء أيها الناس ، وكنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لمستم النساء ، فأردتم أن تصلوا فتيمموا ، يقول : فتعمدوا وجه الأرض الطاهرة ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ } . يعني بذلك جلّ ثناؤه : فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم ، ولكنه ترك ذكر «منه » اكتفاء بدلالة الكلام عليه . والمسح منه بالوجه أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر ، أو ما قام مقامه ، فيمسح بما علق من الغبار وجهه ، فإن كان الذي علق به الغبار كثيرا ، فنفخ عن يديه أو نفضه ، فهو جائز . وإن لم يعلق بيديه من الغبار شيء ، وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد ، ثم مسح بهما أو بها وجهه أجزأه ذلك ، لإجماع جميع الحجة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به أن ذلك مجزئه ، لم يخالف ذلك من يجوز أن يعتدّ بخلافه . فلما كان ذلك إجماعا منهم كان معلوما أن الذي يراد به من ضرب الصعيد باليدين مباشرة الصعيد بهما بالمعنى الذي أمر الله بمباشرته بهما ، لا لأخذ تراب منه . وأما المسح باليدين ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدّ الذي أمر الله بمسحه من اليدين ، فقال بعضهم : حدّ ذلك الكفان إلى الزندين ، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : تيمم عمار فضرب بيديه إلى التراب ضربة واحدة ، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى ، ثم مسح وجهه ، ثم ضرب بيديه أخرى ، فجعل يلوي يده على الأخرى ولم يمسح الذراع .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن أبي خالد ، قال : رأيت الشعبي وصف لنا التيمم : فضرب بيديه إلى الأرض ضربة ، ثم نفضهما ومسح وجهه ، ثم ضرب أخرى ، فجعل يلوي كفيه إحداهما على الأخرى ، ولم يذكر أنه مسح الذراع .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : وضع عمار بن ياسر كفيه لفي التراب ، ثم رفعهما فنفخهما ، فمسح وجهه وكفيه ، ثم قال : هكذا التيمم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا سلام مولى حفص ، قال : سمعت عكرمة ، يقول : التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة للكفين .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن سعيد وابن جابر ، أن مكحولاً كان يقول : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع ، ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك : { فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ } وقوله في التيمم : { فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ } ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء إلى المرافق . قال مكحول : قال الله : { وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدَيهُما } فإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر التنيسي ، عن ابن جابر : أنه رأى مكحولاً يتيمم يضرب بيديه على الصعيد ، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : التيمم : ضربة للوجه والكفين .
وعلة من قال هذه المقالة من الأثر ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة ومحمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار بن ياسر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم ، فقال : «مَرّةً للكَفّيْنِ والوَجْهِ » . وفي حديث ابن بشر : أن عمارا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيدة بن سعيد القرشي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبزى ، قال : جاء رجل إلى عمر ، فقال : إني أجنبت فلم أجد الماء ، فقال عمر : لا تصلّ ! فقال له عمار : أما تذكر أنا في مسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجنبت أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصلّ ، وأما أنا فتمعّكت في التراب وصليت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : «إنّمَا كَانَ يَكفْيكَ » وضرب كفيه الأرض ونفخ فيهما ومسح وجهه وكفيه مرّة واحدة ؟
وقالوا : أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين ، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه ، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس .
وقال آخرون : حدّ المسح الذي أمر الله به في التيمم أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوراث بن سعيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع : أن ابن عمر تيمم بمربد النعم ، فضرب ضربة فمسح وجهه ، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عبيد الله ، عن نافع ، عن عبد الله أنه قال : التيمم مسحتان ، يضرب الرجل بيديه الأرض ، يمسح بهما وجهه ، ثم يضرب بهما مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر في التيمم ، قال : ضربة للوجه ، وضربة للكفين إلى المرفقين .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان يقول في المسح في التيمم إلى المرفقين .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : سألت الحسن ، عن التيمم ، فضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه ، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أنه قال في هذه الاَية : { فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ } وقال في هذه الاَية : { فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ } قال : أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء الرأس والرجلان .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، وحدثنا ابن المثنى ، قال : ثني محمد بن أبي عديّ جميعا ، عن داود ، عن الشعبي في التيمم ، قال : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : أمر بالتيمم فيما أمر بالغسل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال : سألت سالم بن عبد الله عن التيمم ، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : وأخبرنا حبيب بن الشهيد ، عن الحسن أنه سئل عن التيمم ، فقال : ضربة يمسح بها وجهه ، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين .
وعلة من قال هذه المقالة أن التيمم بدل من الوضوء على المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء . واعتلوا من الأثر بما :
حدثني به موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا خارجة بن مصعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي جهيم ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلمت عليه فلم يردّ عليّ ، فلما فرغ قام إلى حائط ، فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه إلى الحائط ، فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد عليّ السلام .
وقال آخرون : الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم الاَباط . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمر بن أبي سلمة التنيسي ، عن الأوزاعي ، عن الزهري قال : التيمم إلى الاَباط .
وعلة من قال ذلك أن الله أمر بمسح اليد في التيمم كما أمر بمسح الوجه ، وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه ، فكذلك عليه جميع اليد ، ومن طرف الكف إلى الإبط يد . واعتلوا من الخبر بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا صيفي بن ربعي ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح ، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة المسح بالصعيد ، فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ، نزل فيك رخصة ! فضربنا بأيدينا ضربة لوجهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والاَباط .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن الحدّ الذي لا يجزىء المتيمم أن يقصر عنه في مسحه بالتراب من يديه ، الكفان إلى الزندين لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز ، ثم هو فيما جاوز ذلك مخير إن شاء بلغ بمسحه المرفقين ، وإن شاء الاَباط . والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرا فيما جاوز الكفين أن الله لم يحدّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدّا لا يجوز التقصير عنه ، فما مسح المتيمم من يديه أجزأه ، إلا ما أجمع عليه ، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه ، وقد أجمع الجميع على أن التقصير عن الكفين غير مجزىء ، فخرج ذلك بالسنة ، وما عدا ذلك فمختلف فيه ، وإذ كان مختلفا فيه ، وكان الماسح بكفيه داخلاً في عموم الاَية كان خارجا مما لزمه من فرض ذلك .
واختلف أهل التأويل في الجنب ، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا ؟ فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء حكم من جاء من الغائط ، وسائر من أحدث ممن جعل التيمم له طهورا لصلاته ، وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } أو جامعتموهنّ ، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك . واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره بإجماع الحجة على ذلك نقلاً عن نبيها صلى الله عليه وسلم الذي يقطع العذر ، ويزيل الشكّ . وقال جماعة من المتقدمين : لا يجزىء الجنب غير الاغتسال بالماء ، وليس له أن يصلي بالتيمم ، والتيمم لا يطهره . قالوا : وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب ، وتأوّلوا قول الله : { وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ } قالوا : وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازا فيه حتى يغتسل ، ولم يرخص له بالتيمم . قالوا : وتأويل قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ } : أو لامستموهنّ باليد دون الفرج ودون الجماع . قالوا : فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم ، بل أمره بالغسل ، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلاً . قالوا : والتيمم لا يطهره لصلاته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : كنت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن أرأيت رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهرا أيتيمم ؟ فقال عبد الله : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا . فقال أبو موسى : فكيف تصنعون بهذه الاَية في سورة المائدة : { فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا } ؟ فقال عبد الله : إن رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد . فقال له أبو موسى : إنما كرهتم هذا لهذا ؟ قال : نعم . قال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار لعمر : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرّغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة ، قال : فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّمَا يَكْفِيكَ أنْ تَصْنَعَ هَكَذا » ، وضرب بكفيه ضربة واحدة ومسح بهما وجهه ، ومسح كفيه ؟ قال عبد الله : ألم تر عمر لم يقنع لقول عمار ؟
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن أبي مالك وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتاه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء ! فقال عمر : أما أنا فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلي حتى أجد الماء . قال عمار بن ياسر : أتذكر يا أمير المؤمنين حيث كنا بمكان كذا وكذا ، ونحن نرعى الإبل ، فتعلم أنا أجنبنا ؟ قال : نعم فأما أنا فتمرّغت في التراب ، فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنْ كانَ الصّعِيدُ لَكافِيكَ » ، وضرب بكفيه الأرض ، ثم نفخ فيهما ، ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه ؟ فقال : اتق الله يا عمار ! فقال : يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره ، فقال : لا ، ولكن نوليك من ذلك ما توليت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت إبراهيم في دكان مسلم الأعور ، فقلت : أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب ؟ قال : لا أصلي .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم يجد الماء والصلاة بقوله : { أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا } . وقد بينا ثم أن معنى الملامسة في هذا الموضع : الجماع بنقل الحجة التي لا يجوز الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه ولا السهو ولا التواطؤ والتضافر ، بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته ، مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها وتركنا ذكر كثير منها استغناء بما ذكرنا منها عما لم نذكر ، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا } هل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدث حدثا يجب عليه منه الوضوء بالماء لو كان للماء واجدا ؟ فقال بعضهم : ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرض الطلب بعد الطلب محدثا كان أو غير محدث . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ رضي الله عنه أنه كان يقول : التيمم لكل صلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، مثله .
حدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبدان المروزي ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا عبد الوراث ، قال : أخبرنا عامر الأحول ، عن نافع أنه حدثه ، عن ابن عمر مثل ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، قال : لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : يتيمم لكل صلاة . ويتأول هذه الاَية : { فَلَمْ تَجِدُوا ماءً } .
قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، قالوا : التيمم لكل صلاة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن النخعي ، قال : يتيمم لكل صلاة .
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله بالتيمم بعد طلب الماء من لزمه فرض الطلب إذا كان محدثا ، فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب فلزمه فرض الطلب ، فليس عليه تجديد تيممه ، وله أن يصلي بتيممه الأوّل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : التيمم بمنزلة الوضوء .
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : حدثنا عمر بن شاكر ، عن الحسن ، قال : يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث ، فإن وجد الماء فليتوضأ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا هشام ، عن الحسن ، قال : كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث ، وكذلك التيمم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا هشام ، عن الحسن ، قال : كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : التيمم بمنزلة الوضوء .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : يتيمم المصلى لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضا لأن الله جلّ ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء ، فإن لم يجد الماء فالتيمم ، ثم أخرج القائم إلى الصلاة من كان قد تقدم قيامه إليها الوضوء بالماء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يكون قد أحدث حدثا ينقض طهارته ، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة . وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها ، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل بعد طلبه الماء إذا أعوزه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَفُوّا غَفُورا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله لم يزل عفوّا عن ذنوب عباده وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به ، كما عفا عنكم أيها المؤمنون عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى . { غَفُورا } يقول : فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذاب على خطاياهم ، كما ستر عليكم أيها المؤمنون بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى . يقول : فلا تعودوا لمثلها فينا لكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك مَنْكَلة .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم . روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مادبة ودعا نفرا من الصحابة -حين كانت الخمر مباحة- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) . فنزلت . وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر ، من السكر وهو السد . وقرئ { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى . أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة . { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجري مجرى المصدر . { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل . وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث . ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد . وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق . { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه . { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد . أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه . { أو على سفر } لا تجدونه فيه . { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض . { أو لامستم النساء } أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء . وقيل : أو جامعتموهن . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة " لمستم " ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة . { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود . ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر . والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا . ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه . وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } . { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم .
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر : أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، فحضرت الصلاة ، فتقدمهم علي بن أبي طالب ، فقرأ { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] فخلط فيها ، بأن قال : «أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد » ، فنزلت الآية ، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف{[4055]} .
وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : إنما المراد سكر النوم{[4056]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والخطاب لجميع الأمة الصاحين ، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت ، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق ، على ما ذهب إليه بعض الناس .
وقرأت فرقة { سكارى } جمع سكران{[4057]} ، وقرأت فرقة «سَكرى » بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش : «سُكرى » بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى ، وقرأ النخعي «سَكرى » بفتح السين{[4058]} . قال أبو الفتح : هو تكسير سكران على سكارى ، كما قالوا : روبى نياماً{[4059]} وكقولهم : هلكى وميدى{[4060]} في جمع هالك ومائد ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة ، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى ، وأما «سُكرى » بضم السين فصفة لواحدة ، كحبلى ، والسكر انسداد الفهم ، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا العبادة المعروفة ، حسب السبب في نزول الآية ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين{[4061]} .
قال القاضي أبو محمد : وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل ، ويظهر من قوله : { حتى تعلموا } أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره : إن السكران لا يلزمه طلاقه ، فأسقط عنه أحكام القول ، لهذا ، ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت ؟ فمعناه : أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار .
قال القاضي أبو محمد : وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق ، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين ، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم ، ويحكم عليه حكم العالم ، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى ، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين ، وأما أحكام الجنايات ، فهي كلها لازمة للسكران { وأنتم سكارى } ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال ، وحكي عن ابن فورك أنه قال : معنى الآية النهي عن السكر ، أي لا يكن منكم سكر ، فيقع قرب الصلاة ، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأباً ، والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، وقد روي : أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون اثر الصبح واثر العتمة ، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون .
وقوله : { ولا جنباً } عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة{[4062]} ، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة ، وروي عن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل{[4063]} ، وهو من الجنابة ، وهي : البعد ، كأنه جانب الطهر أو من الجنب ، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنباً ، وقرأت فرقة «جنْباً » بإسكان النون ، و { عابري سبيل } هو من العبور أي : الخطور والجواز ، ومنه : عبر السفينة النهر ، ومنه : ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة{[4064]} ، أي تعبرها بسرعة السير ، قال الشاعر : وهي امرأة : [ الكامل ]
عَيْرَانَةٌ سَرْحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ *** عَبْرَ الهَوَاجِرِ كَالْهُزُفِّ الخَاضِبِ{[4065]}
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل هو المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم : عابر السبيل الخاطر في المسجد ، وهو المقصود في الآية ، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى ، وروى بعضهم : أن سبب نزول الآية { أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد ، فنزلت الآية في ذلك{[4066]} ، ثم نزلت { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية ، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " {[4067]} حين أقام على التماس العقد{[4068]} ، هكذا قال الجمهور ، وقال النخعي : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ، ذكر النقاش : أن ذلك نزل بعبد الرحمن بن عوف ، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري ، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به ، وهذا يتيمم بإجماع ، إلا ما روي عن عطاء : أنه يتطهر وإن مات ، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة والذي يخاف بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت ، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول ، وإما خوف ما ذكرناه ، وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ، وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور ، والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ، والمسافر في هذه الآية : هو الغائب عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الشافعي في كتاب الأشراف ، وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير ، وهذا ضعيف .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قالت فرقة : لا يتيمم في سفر معصية ، وهذا أيضاً ضعيف ، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة ، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه ، وإما خوف على الرجل بسبب طلبه ، وإما خوف سباع أو إذاية عليه ، واختلف في وقت إيقاعه التيمم ، فقال الشافعي : في أول الوقت ، وقال أبو حنيفة وغيره : في آخر الوقت ، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت ، والجاهل بأمره جملة ، وقال إسحق بن راهويه : لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله ، وقالت طائفة : يخرج من طلبه الغلوتين{[4069]} ونحوهما ، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال ، وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وأصل { الغائط } ما انخفض من الأرض ، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع ، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه ، وقرأ قتادة الزهري «من الغيْط » ساكنة الياء من غير ألف ، قال ابن جني : هو محذوف من فيعل ، عين هذه الكلمة واو{[4070]} ، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ، واختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما اعتقد في ذلك : أن أنواع الأحداث ثلاثة ، ما خرج من السبيلين معتاداً ، وما أذهب العقل ، واللمس ، هذا على مذهب مالك ، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد ، ولا يراعى المخرج ولا غيره ، ولا يعد اللمس فيها ، وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، والإجماع من الأحداث على تسعة ، أربعة من الذكر ، وهي البول والمني والودي والمذي ، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض ، واثنان من الدبر ، وهما الريح والغائط ، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل ، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعاً ، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم { لامستم } وقرأ حمزة والكسائي «لمستم » وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع ، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه ، إذ في جميع ذلك لمس ، واختلف أهل العلم في موقعها هنا : فمالك رحمه الله يقول : اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين ، فالملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم ، لأن اللمس نقض وضوءه ، وقالت طائفة : هي هنا مخصصة للمس اليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ، ولا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع ، فالجنب يتيمم ، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث ، ولا هو ناقض لوضوء ، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ، ومالك رحمه الله يرى : أن اللمس ينقض إذا كان للذة ، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة ، ولا إذا كان لابنة أو لأم ، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة { النساء } ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه ، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه ، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، واختلف فيه ، فقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديماً ، وهذا قول ضعيف ، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم ، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقالت طائفة : يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعداً ، وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة ، ونحو هذا ، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله ، وقيل لأشهب : أيشتري القربة بعشرة دراهم ؟ فقال ما أرى ذلك على الناس .
قال القاضي أبو محمد : وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته ، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه ، ويترتب أيضاً عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهذا هو الذي يقال فيه : إنه لم يجد ماء ولا تراباً ، كما ترجم البخاري ، ففيه أربعة أقوال ، فقال مالك وابن نافع : لا يصلي ولا يعيد ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد وقال اصبغ : لا يصلي ويقضي ، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء ، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة : إنه يتيمم ولا يعيد ، وقال : إنه يعيد ، وفي الواضحة وغيرها عنه : أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس . وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة ، فقيل : يعيد ، وقيل : لا يعيد ، ومعنى قوله { فتيمموا } في اللغة : اقصدوا ، ومنه قول امرىء القيس [ الطويل ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عُرْمُضُها طَامي{[4071]}
ومنه قول أعشى بني ثعلبة : [ المتقارب ]
تَيَمَّمْت قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ{[4072]}
ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، قاله الخليل وغيره ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأَنَّه بالضُّحى تَرمي الصَّعيدَ بِهِ *** دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ{[4073]}
واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب ، فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض ، تراباً كان أو رملاً أو حجارة أو معدناً أو سبخة ، وجعلت «الطيب » بمعنى الطاهر ، وهذا مذهب مالك ، وقالت طائفة منهم : «الطيب » بمعنى الحلال ، وهذا في هذا الموضع قلق ، وقال الشافعي وطائفة : «الطيب » بمعنى المنبت ، كما قال جل ذكره
{ والبلد الطيب يخرج نباته }{[4074]} فيجيء الصعيد على هذا التراب ، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه ، فمكان الإجماع : أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب ، ومكان الإجماع في المنع : أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف ، أو الفضة والياقوت والزمرد ، أو الأطعمة ، كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات - واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي ، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب ، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد ، ومنعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والثلج في المدونة جوازه ، ولمالك في غيرها منعه ، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان : أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ بحت من جهات ، وأما التراب المنقول في طبق وغيره ، فجمهور المذهب جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع ، وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان ، الإجازة والمنع ، وفي التيمم على الجدار الخلاف ، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك ، فالجمهور على منع التيمم على العود ، وفي مختصر الوقار{[4075]} : أنه جائز ، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد » اختلافاً : أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية ، وأن «الصعيد » التراب ، وأنه وجه الأرض .
وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور ، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين{[4076]} ، وقاله بعض أهل العلم : قياساً على تنكيس الوضوء ، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء ، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب ، ويتتبعه كما يصنع بالماء ، وأن لا يقصد ترك شيء منه ، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين ، وما بين الأصابع في اليدين{[4077]} ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ، ومذهب مالك في المدونة : أن التيمم بضربتين ، وقال ابن الجهم : التيمم واحدة ، وقال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة أجزأه ، وقال غيره في المذهب : يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، وقال مالك في المدونة : يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى ، ثم يمر كذلك إلى المرفق ، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن ، حتى يصل إلى الكوع ، ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك ، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى ، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة ، قال ابن حبيب : يمر بعد ذلك كفيه ، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف ، قال اللخمي : في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيراً ، وقالت طائفة : يبدأ بالشمال كما في المدونة ، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ ، مشى على الكف ، ثم كذلك باليمنى في اليسرى ، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعاً ، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره ، وقالت طائفة : يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة ، وقال مالك في المدونة : في المذهب بمسح يديه إلى المرفقين ، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، قال غيرهما : في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء ، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر{[4078]} ، وهو قول الشعبي ، وقال ابن شهاب : يمسح إلى الآباط ، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم : إنك لمباركة ، نزلت فيك رخصة ، فضربنا ضربة لوجوهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط ، {[4079]} وفي مصنف أبي داود عن الأعمش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسح إلى أنصاف ذراعيه ، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت ، وما حكى الداودي{[4080]} من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة ، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب ، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق ، وعمم جمهور الأمة{[4081]} ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضاً على القطع{[4082]} ، إذ هو حكم شرعي وتطهير ، كما هذا تطهير ، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين ، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، يجب ولا يجب .
يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون }
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً . ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقعِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية ، وهو قوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها ، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ : قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل ، لأنّ ( قَرُب ) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال : قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة ، ولا يصحّ .
وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر ، والتنفير منها ، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار . ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى : { وصلوات ومساجد } [ الحج : 40 ] ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .
وقوله : { حتى تعلموا ما تقولون } غاية للنهي وإيماء إلى علّته ، واكتفى بقوله ( تقولون ) عن { تفعلون } لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول .
وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق ، مشتقّ من السَّكْر ، وهو الغلق ، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب { وسكرت أبصارنا } [ الحجر : 15 ] .
ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .
{ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جا أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا }
عطف على جملة { وأنتم سكارى } لأنّا في محلّ الحال ، وهذا النصب بعد العطف دليل بيِّنٌ على أنّ جملة الحال معَتبرة في محلّ نصب .
والجنُب فُعُل ، قيل : مصدر ، وقيل : وصف مثل أُجُد ، وقد تقدّم الكلام فيه آنفاً عند قوله : { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل .
ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع ، مِن قوله : { وأنتم سكارى } . وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية ، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفاً عندهم ، ولعلّه من بقايا الحنيفية ، أو ممّا أخذوه عن اليهود ، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في « الاصحاح » 15 من سفر اللاويين من التوراة . وذكر ابن إسحاق في « السيرة » أنّ أبا سفيان ، لما رجع مهزوماً من بدر ، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّداً . ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة .
والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ . والمقصود من قوله : { ولا جنباً } التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم ، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل ، فذكره هنا إدماج . والتيمّم شرع في غزوة المُرَيْسيع على الصحيح ، وكانت سنة ستّ أو سنة خمسسٍ على الأصحّ . وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المرَيْسيع هي آية التيمّم ، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلاّ التيمّم . ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } التي في سورة المائدة ( 6 ) ، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء ، قال : لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء . وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء . وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة .
وسورة المائدة قيل : نزلت قبل سورة النساء ، وقيل بعدها ، والخطب سهل ، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة .
والاستثناء في قوله : { إلا عابري سبيل } استثناء من عموم الأحوال المستفادِ من وقوع ( جنبا ) ، وهو حال نكرة ، في سياق النفي . وعابر السبيل ، في كلام العرب : المسافر حين سيره في سفره ، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز ، يقال : عبر النهر وعبر الطريق . ومن العلماء من فسّر { عابري سبيل } بمارّين في طريق ، وقال : المراد منه طريق المسجد ، بناء على تفسير الصلاة في قوله : { لا تقربوا الصلاة } بالمسجد ، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث ، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد . ونسب أيضاً إلى أنس بن مالك ، وأبي عبيدة ، وابن المسّيب ، والضحّاك ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والنخعي ، وزيد بن أسْلم ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة ، وابن شهاب ، وقتادة ، قالوا : كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دُور في المسجد ، ثم نسخ ذلك بعدَ سدّ الأبواب كلّها إلاّ خوخة أبي بكر ، فكان المرور كذلك رخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وفي رواية ولعلي ، وقيل : أبقيت خوخة بنت عليّ في المسجد ، ولم يصحّ .
وفائدة هذا الاستثناء عند من فسّر { تقربوا الصلاة } بدخول المسجد ، وفسّر { عابري سبيل } بالمارّين في المسجد ظاهرة ، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل . وعابرُ السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق ، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه ، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة ، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة ، للاستغناء عنه بقوله بعده { أو على سفر } ولأنّ في عموم الحصر تخصيصاً ، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاءَ الماء . ولندور عروض المرض . والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أنْ يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنباً ، ويرى التيمّم غير رافع للحدث ، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت ، وهذا قول الشافعي ، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة ، ودَليله ظاهر الاستثناء ، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمّم غير جنب ، ويرى التيمّم رافعاً للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه . وهذا قول أبي حنيفة ، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّأ لأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقاً ، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه . وعن مالك في ذلك قولان : فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث ، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلاّ فرضاً واحداً ، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء .
وعن مالك ، في رواية البغداديين : أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة ، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء ، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد ، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلاّ لأنَّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غيرَ جازمة في بقائه ، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ .
وفي مفهوم هذا الاستثناء ، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور ، على هذا المحمل تفصيل . فعابر السبيل مُطلق قيده قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وبقي عموم قوله { ولا جنباً } في غير عابر السبيل ، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خُصّص ، فخَصَّصه الشرط تخصيصاً ثانياً في قوله : { وإن كنتم مرضى } . ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله : { إلا عابري سبيل } مجملاً لأنّهم يترقّبون بيانَ الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر ، فيكون في قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } بيان لهذا الإجمال ، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال ، ويكون قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } استئنافا لأحكام التيمّم .
وتقديم المُستثنى في قوله : { إلا عابري سبيل } قبل تمام الكلام المقصود قصره بقوله : { حتى تغتسلوا } للاهتمام وهو جار على استعمال قليل ، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي :
لاَ أشتهي يا قوم إلاَّ كارها *** بابَ الأمير ولا دفاع الحاجب
وقوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنباً ، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له ، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال ، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل . والحكمة في مشروعية الغسل النظافة ، ونيطَ ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد ، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع . ومن أبدع الحِكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم ، فنيطَ وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعَارف أعمار البشر ، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية ، وحيث كان بَيْن تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها ، وكان أيضاً بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسبٌ تامّ ، كان نوْط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجُعل هو العلّة أو السبب ، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع ، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطاً بأعظم عبادة وهي الصلاة ، فصارت الطهارة عبادة كذلك ، وكذلك القول في مشروعية الوضوء ، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى ، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتورٌ باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم ، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقُضيت بهذا الانضباط حِكَمٌ عظيمة .
ودلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله : { حتى تغتسلوا } على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء ، وهذا متّفق عليه ، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن : فشرطه مالك رحمه الله بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في « لسان العرب » ، ولأنّ الوضوء لا يجزىء بدون ذلك باتّفاق ، فكذلك الغسل .
وقال جمهور العلماء : يجزىء في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس ؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أفاض الماء على جسده ، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك ، ولكنّهما سكتتا عنه ، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر ، وهذا أيضاً رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج ، ومروان بن محمد الطاطري ، وهي ضعيفة .
وقوله : { وإن كنتم مرضى } إلخ ذكرُ حالةِ الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة ، وذُكر في سورة المائدة ، وهي نازلة قبل هذه السورة . فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره . وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود ، وحصل أيضاً تخصيص لعموم قوله : { ولا جنباً } كما تقدّم .
وقوله : { أو على سفر } بيان للإجمال الواقع في قوله : { إلا عابري سبيل } إن كان فيه إجمال ، وإلاّ فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم .
وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل ، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعاباً لنوعَي التيمّم . وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور . فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحتِه بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد عِلَّتَه . { أو جاء . . . من الغائط } كناية عن قضاء الحاجة البشرية ، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح .
والغائط : المنخفض من الأرض ، وما غاب عن البصر ، يقال : غَاط في الأرض إذا غاب يغوط ، فهمزته منقلبة عن الواو ، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم ، فيكنون عنه : يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط ، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيراً حتّى ساوت الحقيقة فسمَجَت ، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك .
وقوله : { أو لامستم النساء } قرىء ( لامستم ) بصيغة المفاعلة ، وقرىء ( لمستم ) بصيغة الفعل كما سيأتي ، وهما بمعنى واحد على التحقيق . ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل . وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد ، وقد أطلق مجازاً وكناية على الافتقاد ، قال تعالى :
{ وأنا لمسنا السماء } [ الجن : 8 ] وعلى النزول ، قال النابغة :
ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب
وعلى قربان النساء ، لأنّه مرادف المسّ ، ومنه قولهم : « فلانة لا تردّ يد لامس » ، ونظيره { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] . والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها ، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضضِ الجسد جسدَ المرأة ، فيكون ذكر سببا ثانياً من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء ، وبذلك فسّره الشافعي ، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجباً للوضوء ، وهو محمل بعيد ، إذ لا يكون لمس الجسد موجباً للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجاً معتاداً . فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع . وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى ، وإنّما لم يستغن عن { لمستم النساء } بقوله آنفاً { ولا جنباً } لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال ، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة . والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام ، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه . وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية . وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء ، إلاّ أنّ مالكاً قال : إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه ، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح ، لكن هذا بشرط الالتذاذ ، وبه قال جمع من السلف ، وأرى مالكاً اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف ، ولا أراه جعله المراد من الآية .
وقرأ الجمهور { لامستم } بصيغة المفاعلة ؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف { لمستم } بدون ألف .
وقوله : { فلم تجدوا ماء } عطف على فعل الشرط ، وهو قيد في المسافر ، ومن جاء من الغائط ، ومن لامس النساء ، أمّا المريض فلا يتقيّد تَيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقاً ، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض ، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى ، ولا يكون المقصود من المريض الزمن ، إذ لا يعدم الزمن مناوِلاً يُناوله الماء إلاّ نادرا .
وقوله { فتيمموا } جواب الشرط والتيمّم القصد والصعيد وجه الأرض ، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائماً في الشمس لا يكاد يفيق :
كأنَّه بالضحى تَرْمِي الصعيدَ به *** دَبَّابَةٌ في عظام الرأس خُرطوم
والطيّب : الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر ، فيشمل الصعيدُ الترابَ والرملَ والحجارة ، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته .
وقد شُرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع ، وسبب شرعه ما في « الصحيح » عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناسسِ وليسوا على ماء وليس معهم ماء .
فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حَبَسْتِ رسول الله والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فعاتَبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرّك إلا مَكانُ رسول الله على فَخِذي ، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمّم . فقال أسَيْد بنُ الحُضَيْر : ما هي بأوّلِ بركتكم يا آلَ أبي بكر ، فوالله ما نَزل بكِ أمْر تكرهينَه إلاّ جعل الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً . قالت : فبعثْنَا البعيرَ الذي كنتُ عليه فأصبنا العِقْد تحته .
والتيمّم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعْطِيتُ خمسا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحد قبلي فذكر منها وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً » . والتيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة ، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضاً عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك .
وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين ، وتقرير حُرمة الصلاة ، وترفيع شأنها في نفوسهم ، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيماً لمناجاة الله تعالى ، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء ، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها ، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم ، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك ، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه ، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى ، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر ، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم . هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان " . ولأجل هذا أيضاً اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عُمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر . وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع ؟ قال عبدُ اللَّه : لا يُصلّي حتّى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك ، قال أبو موسى . فدَعْنَا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية { وإن كنتم مرضى أو على سفر } فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : { إلا عابري سبيل } رخصة لمرور المسجد ، وجعلا { أو لامستم النساء } مراداً به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى . وقال الشافعي : لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة . وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، « فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه .
وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه واليدين ، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بَلْهَ أعضاء الغسل ، إذ ليس المقصود منه تطهيراً حسيَّا ، ولا تجديد النشاط ، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة ، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزىء منه إلاّ مسح سائر الجسد بالصعيد ، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء ، فقد ثبت في « الصحيح » عن عمّار بن ياسر ، قال : كنت في سفر فأجنبت فتمعَّكْت في التَراب ( أيْ تمرّغت ) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال « يكفيك الوجه والكفان » وقد تقدّم آنفاً .
والباء للتأكيد مثل : « وهزّي إليك بجذع النخلة » وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :
لكَ الخيرُ إن وارتْ بك الأرضُ واحدا *** وأصْبَحَ جَدُّ الناس يظْلَعَ عَاثِرا
أراد إن وارتْك الأرض مواراة الدفن . والمعنى : فامسحوا وجوهكم وأيديكم ، وقد ذُكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصةٌ على رخصة .
وقوله : { إن الله كان عفواً غفوراً } تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض ، ولا ترقّبَ وجود الماء عند عدمه ، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء .