ثم هددهم - سبحانه - بسوء العاقبة ، إذا ما استمروا فى ضلالهم وجهالاتهم وذكرهم بما يشاهدونه من عجائب قدرته فقال : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض } .
والاستفهام للتعجب من حالهم ، ومن ذهولهم عن الفكر والتدبر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام .
والمعنى : أعمى هؤلاء الكافرون فلم يعتبروا ولم يتعظوا بما يشاهدونه من مظاهر قدرته - عز وجل - المحيطة بهم من كل جانب والمنتشرة فى آفاق السماوات وفى جوانب الأرض ؟
إن تأملهم فى مظاهر قدرتنا الواضحة أمام أعينهم ، من شأنه أن يهديهم إلى الحق الذى جاءهم به رسولنا صلى الله عليه وسلم ومن شأنه أن يجعلهم يوقنون بأننا { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض } كما فعلنا بقارون .
{ أَوْ } إن نشأ { نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } والكِسَفُ جمع كِسْفَة بمعنى قطعة أى : لا يعجزنا أن نخصف بهم الأرض . كما لا يعجزنا - أيضا - أن نتنزل عليهم قطعا من العذاب الكائن من السماء فنهلكهم ، كما أنزلناها على أصحاب الأيكة فأهلكناهم بسبب تذكيبهم وجحودهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } .
أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه من مظاهر قدرتنا الواضحة بين أيديهم ، لآية بينة ، وعبرة ظاهرة ، لكل عبد أى : راجع إلى الله - تعالى - بالتوبة الصادقة ، وبالطاعة الخالصة لما جاءه به نبينا صلى الله عليه وسلم .
ثم ساق - سبحانه - نموذجين من الناس ، أولهما : أعطاه الله - تعالى - الكثير من نعمه وفضله وإحسانه ، فوقف من كل ذلك موقف المعترف بنعم الله الشاكر لفضله .
وثانيهما : أعطاه الله - تعالى - النعم فوقف منها مموقف الجاحد البطر الكنود .
هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم - لو شاء الله - وظلوا هم في ضلالهم البعيد . مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعاً عليهم :
( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض ، أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .
وهو مشهد كوني عنيف ، منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال .
فخسف الأرض يقع ويشهده الناس . وترويه القصص والروايات أيضاً . وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق . وهم رأوا شيئاً من هذا أو سمعوا عنه . فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين ، الذين يستبعدون مجيء الساعة . والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة . يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم ، محيطة بهم ، وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله . ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون .
وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض ، والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء . في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب :
( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . . لا يضل ذلك الضلال البعيد . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِن نّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره : أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالمعاد ، الجاحدون البعث بعد الممات ، القائلون لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم : أفْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أمْ بِهِ جِنّةٌ إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، فيعلموا أنهم حيث كانوا ، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، فيرتدعوا عن جهلهم ، ويتزجروا عن تكذيبهم بآياتنا حذرا أن نأمر الأرض فتخسف بهم ، أو السماء فتسقط عليهم قطعا ، فإنّا إن نشأ نفعل ذلك بهم فعلنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بَينَ أيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال : ينظرون عن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، كيف السماء قد أحاطت بهم إنْ نَشأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ كما خسفنا بمن كان قبلهم أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفا مّنَ السّماءِ : أي قِطعا من السماء .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يقول تعالى ذكره : إن في إحاطة السماء والأرض بعباد الله لاَية يقول : لدلالة لكلّ عبد منيب يقول : لكل عبد أناب إلى ربه بالتوبة ، ورجع إلى معرفة توحيده ، والإقرار بربوبيته ، والاعتراف بوحدانيته ، والإذعان لطاعته ، على أن فاعل ذلك لا يمتنع عليه فعل شيء أراد فعله ، ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ والمنيب : المقبل التائب .
{ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى جعلوه افتراء وهزؤا ، وتهديدا عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقا ، أم السماء وإنا { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا } ، ولتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات . وقرأ حمزة والكسائي " يشأ " و " يخسف " و " يسقط " بالياء لقوله : { افترى على الله } . والكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء وحفص " كسفا " بالتحريك . { إن في ذلك } النظر والتفكر فيهما وما يدلان عليه . { لآية } لدلالة . { لكل عبد منيب } راجع إلى ربه فإنه يكون كثيرا التأمل في آمره .
الضمير في { يروا } لهؤلاء { الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سبأ : 8 ] وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم ، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم ، ولا عدم إحاطته بهم ، وقرأ الجمهور «إن نشأ نخسف » و «نسقط » بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف بهم أو يسقط » بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد ، و «خسف الأرض » هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها ، و «الكسف » قيل هو مفرد اسم القطعة ، وقيل هو جمع كسفه جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر{[9601]} .
وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله { نخسف بهم } قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلاناً ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله «اضرب محمداً » ولا تدغم الميم في الباء كقولك " اضمم بكراً " ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم{[9602]} .
والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال ، و «المنيب » الراجع التائب .