التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل موارد الاتقاء ومظانه ، فابتدأ بأحق الناس بالرحمة والمودة ، وهم اليتامى فقال - تعالى - : { وَآتُواْ . . . أَلاَّ تَعُولُواْ }

وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ( 3 )

والأمر فى قوله { وَآتُواْ } يتناول كل من له ولاية أو وصاية أو صله باليتيم ، كما يتناول الجماعة الإِسلامية بصفة عامة ، لكى تتكاتف وتتعاون على تمكين اليتيم من وصول حقه إليه بدون بخس أو مماطلة .

و { اليتامى } جمع يتيم وهو الصغير الذى مات أبوه ، مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد . ومنه الدرة اليتيمية .

قال صاحب الكشاف وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنه قد غلب ان يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم ، وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم ، زال عنهم هذا الاسم . وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبى طالب ؛ إما على القياس ، وإما حكاية للحال التى كان عليها صغيرا في حجر عمه . وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا يتم بعد الحلم " فهو تعليم شريعة لا لغة . أى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار " .

والمراد باليتامى هنا الصغار ، والمراد بإيتائهم أموالهم حفظها لهم وعدم الطمع فى شىء منها لا من قبل الورثة ولا من قبل الأوصياء ولا من قبل غيرهم وعلى هذا المعنى يكون لفظ الإِيتاء قد أول بلازم معناه وهو الحفظ والرعاية لمال اليتامى ، لا تسليم المال إليهم لأنه من المعروف شرعا ألا يسلم المال إليهم إلا بعد البلوغ ، إذ هم فى حال الصغر لا يصلحون للتصرف .

ويكون هذا التعبير من باب الكناية بإطلاق اللازم - وهو الإِيتاء ، وإرادة الملزوم وهو الحفظ ، أو من باب المجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإِيتاء .

ويرى بعضهم أن المراد باليتامى هنا الكبار الذين أونس منهم الرشد وأن المراد بالإِيتاء دفع أموالهم إليهم على سبيل الحقيقة .

ويكون التعبير عنهم باليتامى - مع أنهم كبار - باعتبار ان اسم اليتيم يتناول لغة كل من فقد أباه ، أو باعتبار قرب عهدهم بالصغر ، أو باعتبار ما كان أى الذين كانوا يتامى . قالوا : وفى التعبير عنهم باليتامى مع أنهم كبار ، إشارة إلى وجوب المسارعة فى تسليم أموالهم إليهم متى أونس منهم الرشد ، حتى لكأن اسم اليتيم ما زال باقيا عليهم ، غير منفصل عنهم :

ويبدو لنا أن الرأى الأول أولى ، لأن الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم . بعد بلوغهم قد جاء صريحا فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فكان حمل الآية التى معنا على أن المراد باليتامى : الصغار ، وبإيتاء أموالهم حفظها لهم ، أولى وأقرب إلى المنطق ، لأنه على الرأى الأول يكون الأمر وما يذكر به تأسيسات أحكام ، وعلى الرأى الثانى يكون ما فى الآية الثانية مؤكدا لما فى الآية التى معنا .

والتأسيس أولى من التأكيد .

ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك فى الآية التى معنا { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } - إنما هو تحذير للأوصياء والأولياء من الطمع فى مال اليتيم أو إضاعته ما دام المال فى أيديهم واليتيم فى حجرهم ، وهذا يؤيد هذا الرأى الأول القائل بن المراد باليتامى : الصغار ، وبإيتاء أموالهم : حفظها ورعايتها حتى تسلم إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة .

وقوله { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } معناه : لا تجعلوا ردىء المال لهم بدل الجيد ، بأن تأخذوا لأنفسكم كرائم الأموال ونفائسها ، وتتركوا لهم الخسيس منها .

قال القرطبى : وكانوا فى الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فكانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويبدلونه بالردىء من أموالهم ويقولون اسم باسم ، ورأس برأس ، فنهاهم الله عن ذلك . وهذا قول سعيد بن المسيب والزهرى والسدى والضحاك وهو ظاهر الآية ، إذ التبديل جعل شىء بدل شىء " .

ويرى صاحب الكشاف أن المراد بالخبث : الحرام ، وبالطيب : الحلال فقد قالوا : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } أى : ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما ابيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث فى الأرض فتأكلوه مكانه ، أو لا تستبدلوا الأمر الخبث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها " .

وقوله - تعالى - { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } نهى آخر عن الاعتداء على أموال اليتامى عن طريق خلط أموال اليتامى بأموال الأوصياء ، و المراد من الأكل : مطلق الانتفاع والتصرف وخص الأكل بالذكر ، لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف .

والمعنى : ولا تضموا أيها الأوصياء أموال اليتامى إلى أموالكم في الإِنفاق فتأكلوها مع أموالكم ، وتسووا بينهما فى الانتفاع ، لأن أموالكم احل الله لكم أكلها ، أما أموال اليامى فقد جرم الله عليكم أكلها .

فالآية الكريمة صريحة فى النهى عن خلط مال اليتيم القاصر بمال الوصى عليه بقصد أكله ، لأن هذا لون من ألوان الاستيلاء المحرم على أموال اليتامى ، كما أنها تتضمن النهى عن خلط مال اليتيم بمال الوصى عليه ولو لم يقصد أكله ، لأن هذا الخلط قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تميزه فقد يموت الوصى فلا يعرف مال اليتيم من ماله ، فيؤدى الأمر إلى أكله وإن لم يكن مقصودا ، ولذا قال الفقهاء : إذا مات الوصى على اليتيم مجهلاً مال اليتيم اعتبر مستهلكا له .

والخلاصة أن الآية الكريمة تحرم على الأولياء والأوصياء وغيرهم أن تصرفوا في أموال اليتامى أى تصرف يؤدى إلى الإِضرار بها ، بل عليهم أن يحفظوها لهم حتى يدفعوها إليهم سالمة عند البلوغ .

هذا ، وليس قيد " إلى أموالكم " محط النهى ، بل النهى واقع على أكل أموال اليتامى مطلقا ، سواء أكان للآكل مال يضم إليه مال اليتيم أم لم يكن .

ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثير أو توفير أموالهم ، جىء بهذا القيد رعاية لهذا الغالب ، وليكون ذمهم على جشعهم وضعف دينهم أشد وأشنع حيث أكلوا حقوق اليتامى مع أنهم فى غنى عنها بما رزهم الله من أموال .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال - وهم مع ذلك يطمعون فيها - كان القبح أبلغ والذم أحق ، ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم " .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .

والحوب : اسم مصدر من حاب يحوب حوبا : إذا اكتسب إثما . يقال : فلان يتحوب أى يتأثم . والحوباء : النفس المرتكبة للإِثم . ويقال فى الدعاء : اللهم اغفر حوبتى ، أى إثمى ، وأصله الزجر للإبل ، فسمى الإِثم حوبا لأنه يزجر عنه وبه .

والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى أكل مال اليتيم بأى طريق محرم .

والمعنى : إن أكل مال اليتيم بأى طريقة من الطرق المحرمة كان إثما كبيراً ، وذنبا عظيما ، لأن هذا الأكل اعتداء على نفس ضعيفة فقدت من يعولها ومن يدافع عنها ، ومن اعتدى على نفس ضعيفة ، وضيع حقها ، وخان الأمانة كان مرتكبا لذنب عظيم يؤدى به إلى العقوبة والعذاب الأليم .

والجملة بمنزلة التعليل للنهى عن أكل مال اليتيم ، وعن الطمع بدون وجه حق فيها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

1

من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .

ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن . أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .

وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . إنه كان حوبا كبيرا . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا . .

وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم - المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفا جديدا ، وملامح جديدة .

( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوبا كبيرا ) . .

أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .

فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ،

وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول : ( إنه كان حوبا كبيرا ) . .

إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات . . وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته ؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .

إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى ، يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم ، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد . { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحلال بالحرام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحرام مكان الحلال .

قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه ، فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السديّ ، وعن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ومعمر ، عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولاً ويأخذ سمينا .

وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، قال : لا تعط فاسدا وتأخذ جيدا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة . ويأخذ الدرهم الجيد ، ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدّر لك من الحلال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك .

وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك كالذي :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ، ولا يورّثون الصغار يأخذه الأكبر . وقرأ : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : إذا لم يكن لهم شيء ، { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ } لا يورثوهم ، قال ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم ، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها «بالطيب الحلال لكم من أموالكم » { وتجعلوا } الرديء الخسيس بدلاً منه . وذلك أن تَبَدّل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه ، أو يجعله مكان الذي أخذ . فإذا كان ذلك معنى التبديل والاستبدال ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلى ماله ، قول لا معنى له ، لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما التبدّل الذي قال جلّ ثناؤه : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } ولم يبدّل الاَخذ مكان المأخوذ بدلاً ؟ وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال ، فإنهما أيضا إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد ، لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال فلم يبدّل شيئا مكان شيء ، وإن كانا أرادا بذلك أن الله جلّ ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك سببا لحرمان الطيب منه ، فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول يحتمله التأويل ، غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الاَية ما قلنا ، لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلا يكون ذلك من جنس حكم أوّل الاَية ، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلطوا أموالهم يعني : أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعا .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فاخْوَانُكُمْ } قال : فخالطوهم واتّقوا .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } .

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير . والهاء في قوله «إنّهُ » دالة على اسم الفعل ، أعني الأكل . وأما الحُوب : فإنه الإثم ، يقال منه : حاب الرجل يحوب حَوْبا وَحُوبا وحيابة ، ويقال منه : قد تحوّب الرجل من كذا ، إذا تأثم منه . ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي :

وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفاهُ *** غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطِئا وَحابا

ومنه قيل : نزلنا بَحوْبة من الأرض وبحيبة من الأرض : إذا نزلوا بموضع سَوء منها . والكبير : العظيم ، فمعنى ذلك : إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : إثما عظيما .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كانَ حُوبا } أما حوبا : فإثما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { حُوبا } قال : إثما .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } يقول : ظلما كبيرا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد ، يقول في قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : ذنبا كبيرا ، وهي لأهل الإسلام .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما والله عظيما .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

وآتوا اليتامى أموالهم أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد . ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات . ثم جمع يتمي على يتامى كأسري وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول نهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛ وآتوهم إذا بلغوا . ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت . فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير . { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها . وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل . { كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما . وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

{ اليتامى } : جمع يتيم ويتيمة ، واليُتْمُ في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُتمَ بعد بلوغ »{[3838]} وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر ، وحكى اليتيم في الإنسان من جهة الأم ، وقال ابن زيد : هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً وتأخذوا الكل ظلماً حراماً خبيثاً ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً ، وقالت طائفة : هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام ، والمعنى : إذا بلغوا وأونس منهم الرشد : وسماهم يتامى وهم قد بلغوا ، استصحاباً للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم ، { ولا تتبدلوا } قيل : المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف من ماله ، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك ، وقيل : المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثاً ، وتدعوا أموالكم طيباً ، وقيل : معناه لا تتعجلوا أكل «الخبث » من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، قاله مجاهد وأبو صالح ، و «الخبيث » و «الطيب » : إنما هو هنا بالتحليل والتحريم ، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ - «ولا تبدلوا » - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين ، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم » كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين ، والآية نص في [ النهي عن ] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه ، وروي عن مجاهد أنه قال : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله : { وإن تخالطوهم فإخوانكم }{[3839]} وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة ، وقال ابن فورك عن الحسن : إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة ، وقالت طائفة من المتأخرين { إلى } بمعنى مع ، وهذا غير جيد ، وروي عن مجاهد أن معنى الآية : ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تقريب للمعنى ، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر ، وقال الحذاق : { إلى } هي على بابها وهي تتضمن الإضافة ، التقدير : «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل » ، كما قال تعالى { من أنصاري إلى الله }{[3840]} أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في { إنه } عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر ، والحوب : الإثم ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، تقول : حاب الرجل يحوب حُوباً وحاباً وحَوْباً إذا أثم ، قال أمية بن الأسكر{[3841]} : [ الوافر ]

وإنَّ مُهَاجِريْنِ تَكَنَّفَاهُ . . . غَدَاتئذٍ لَقَدْ خَطِئا وَخَابَا

وقرأ الحسن : «حَوبا » بفتح الحاء ، وهي لغة بني تميم ، وقيل : هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه ، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج ، فإن هذه الأربعة تفعل كله لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعة تفكهون ، في قوله تعالى : { لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون }{[3842]} أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم ، بدليل قوله بعد ذلك { إنّا لمغرمون بل نحن محرومون } [ الواقعة : 66 و 67 ] أي يقولون ذلك ، وقوله : { كبيراً } نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر .

وقوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } قال أبو عبيدة{[3843]} : { خفتم } هنا بمعنى أيقنتم ، واستشهد بقول الشاعر : [ دريد بن الصمة ] : [ الطويل ]

فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بألفَي مُدَجَّجٍ{[3844]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما قاله غير صحيح ، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع ، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين ، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا ، و { تقسطوا } معناه تعدلوا ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، - «ألا تَقْسطوا » بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة - لا - كأنه قال : { وإن خفتم } أن تجوروا ، واختلف في تأويل الآية ، فقالت عائشة رضي الله عنها ، نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن ، فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن{[3845]} في حقوقهن ، وقاله ربيعة ، وقال عكرمة : نزلت في قريش ، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مالَ على مالِ يتيمه فتزوج منه ، فقيل لهم : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا ، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس : إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ، ولا تتحرج في العدل بين النساء ، كانوا يتزوجون العشر وأكثر ، فنزلت الآية في ذلك ، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى » فكذلك فتحرجوا في النساء ، «وانكحوا » على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه ، وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه ، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى ، وانكحوا على ما حد لكم ، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير : { ما طاب } ، معناه ما حل .

قال القاضي أبو محمد : لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن أبي عبلة ، و «من طاب » على ذكر من يعقل ، وحكى بعض الناس أن { ما } في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المنزع ضعف وقال { ما } ولم يقل - من - لأنه لم يرد تعيين من يعقل ، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل ، فكأنه قال : «فانكحوا الطيب » وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه ، قال عليه السلام :< من استطاع منكم الباءة فليتزوج{[3846]} و{ مثنى وثلاث ورباع> : موضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما طاب } ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي . وقال غيره : هي معدولة في اللفظ وفي المعنى ، وأيضاً فإنها معدولة وجمع ، وأيضاً فإنها معدولة مؤنثة ، قال الطبري : هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام ، وخطأ الزجاج هذا القول ، وهي معدولة عن اثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود ، وأنشد الزجاج لشاعر [ ساعدة بن جؤيّة ]{[3847]} : [ الطويل ]

ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُهُ . . . ذِئابٌ تبغّي الناسَ مثْنى ومَوْحَد

فإنما معناه اثنين اثنين ، وواحد واحداً ، وكذلك قولك : جاء الرجال مثنى وثلاث ، فإنما معناه : اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع » ساقطة الألف ، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر : على لسان الضب{[3848]} : [ المجتث ]

لا أشتهي أن أردّا . . . إلا عراداً عردّا

وصليانا بردا . . . . . . . . وعنكثا ملتبدا . ***

يريد بارداً . وقوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } قال الضحاك وغيره : المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين ، ويتوجه على قول من قال : إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته ، أن يكون المعنى : ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم ، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم ، أو تسرّوا منها ، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره : فانكحوا واحدة . وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن : «فواحدةٌ » بالرفع على الابتداء ، وتقدير الخبر : فواحدة كافية ، أو ما أشبهه ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو .

و{ ما ملكت أيمانكم } يريد به الإماء ، والمعنى : إن خاف ألا يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه ، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ، ألا ترى أنها المنفقة ، كما قال عليه السلام : «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه »{[3849]} وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الأليَّةُ{[3850]} يميناً ، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد{[3851]} ، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها .


[3838]:- أخرجه أبو داود في سننه (الجامع الصغير 1/70).
[3839]:- من الآية (220) من سورة البقرة.
[3840]:- تكررت في الآية (52) من سورة آل عمران، والآية (14) من سورة الصف.
[3841]:- أمية بن الأسكر شاعر مخضرم، هاجر ابنه كلاب في الفتوح وكان أمية شيخا، فلما طالت غيبته قال هذه القصيدة البائية يرجو رده فرده عمر رضي الله عنه، (الإصابة 1/65، وانظر أيضا أخباره في الاستيعاب والأغاني وطبقات ابن سلام).
[3842]:- الآية (65) من سورة الواقعة.
[3843]:- مجازات القرآن: 1/116، والبحر المحيط 3/162.
[3844]:- الرواية المشهورة للبيت (وهو من شعر دريد بن الصمة): فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرّد وما رواه أبو عبيدة مختلف عن هذا البيت إذ هو هنالك رجز، وهو منسوب لليلى بنت الحمارس: قلت لكم خافوا بألف فارس مقنعين في الحديد اليابس.
[3845]:- المكايسة في البيع: تنقيص الثمن.
[3846]:- ورد هذا الحديث في البخاري (في باب الصوم وباب النكاح)
[3847]:- البيت لساعدة بن جؤية (انظر ديوان الهذليين 3/1166)، يقول: أهلي بواد ليس به أنيس، وإنما هم مع السباع والوحش في بلد قفر؛ وانظر مجاز القرآن 1/114).
[3848]:- قد مر هذا في ما تقدم من هذا الجزء ص: 357.
[3849]:- ورد في البخاري (أذان: 36، زكاة 16، 13، حدود: 19) ومسلم (زكاة: 91) والترمذي (زهد: 53) والنسائي (قضاة:2).
[3850]:- الألية: القسم أو اليمين.
[3851]:- لعله يشير إلى قول الشماخ في مدح عرابة الأوسي: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين.