التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

ثم أمر الله - تعالى - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرشد الناس إلى الطريق الذى متى سلكوه كانوا حقا محبين لله ، وكانوا ممن يحبهم - سبحانه - فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } .

قال بعضهم : عن الحسن البصرى قال : قال قوم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا نحب ربنا ، فأنزل الله الآية ، وروى محمد بن إسحاق عن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : " نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم ومحبة العباد لله - كما يقول الزمخشرى - مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها ، ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم . والمعنى : قل يا محمد للناس على سبيل الإرشاد والتبيين : إن كنتم تحبون الله حقا كما تدعون ، فاتبعوني ، فإن اتباعكم لى يؤدى إلى محبة الله لكم ، وإلى غفرانه لذنوبكم ، وذلك لأن محبة الله ليست دعوة باللسان ، وإنما محبة الله تتحقق باتباع ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله رحمة للعالمين .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية ، بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدى ، والدين النبوى في كل أقواله وأعماله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .

وقوله { يُحْبِبْكُمُ } جواب الأمر ، وهو قوله { فاتبعوني } . وهذا رأى الخليل .

ويرى أكثر المتأخرين من النحاة أن قوله " يحببكم الله " جواب لشرط مقدر دل عليه المقام والتقدير : إن كنتم تحبون الله فاتبعونى ، وإن اتبعتمونى يحببكم الله ، أى يمنحكم الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ، والرضا الكبير .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن أول علامات محبة العبد لربه ، هى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأن هذا الاتباع يؤدى إلى محبة الله - تعالى - لهذا العبد وإلى مغفرة ذنوبه .

ومحبة الله لعبده هى منتهى الأمانى ، وغاية الآمال ، ولذا قال بعض الحكماء : " ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحب " . ومحبة الله إنما تتأتى بإخلاص العبادة والوقوف عند حدوده والاستجابة لتعاليم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكل من يدعي أنه محب لله وهو معرض عن أوامره ونواهيه فهو كاذب فى دعواه كما قال الشاعر الصوفى :

تعصى الإله وأنت تظهر حبه . . . هذا لعمرى في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته . . . إن المحب لمن يحب مطيع

ثم ختم - سبحانه - الآية بوصفين جليلين فقال : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى أنه - سبحانه - كثير الغفران والرحمة لمن تقرب إليه بالطاعة ، واتبع رسوله فيما جاء به من عنده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

18

وأخيرا يجيء ختام هذا الدرس قويا حازما ، حاسما في القضية التي يعالجها ، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة . يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان ، وحقيقة الدين . ويفرق تفريق حاسما بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات :

( قل : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . قل : أطيعوا الله والرسول : فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) . .

إن حب الله ليس دعوى باللسان ، ولا هياما بالوجدان ، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله ، والسير على هداه ، وتحقيق منهجه في الحياة . . وإن الإيمان ليس كلمات تقال ، ولا مشاعر تجيش ، ولا شعائر تقام . ولكنه طاعة لله والرسول ، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول . .

يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى : " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية . فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله [ ص ] أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }

اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الاَية فيه ، فقال بعضهم : أنزلت في قوم قالوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نحبّ ربنا ، فأمر الله جلّ وعزّ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : «إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيما تَقُولُونَ فاتّبِعُونِي ، فَإِنّ ذَلِكَ عَلامَةُ صِدْقِكُمْ فِيما قُلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ » . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن بكر بن الأسود ، قال : سمعت الحسن يقول : قال قوم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنا نحبّ ربنا ! فأنزل الله عزّ وجلّ : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللّهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علما لحبه ، وعذاب من خالفه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أبي عبيدة ، قال : سمعت الحسن ، يقول : قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنا لنحبّ ربنا ! فأنزل الله جلّ وعزّ بذلك قرآنا : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علما لحبه ، وعذاب من خالفه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهَ } قال : كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله ، يقولون : إنا نحبّ ربنا ، فأمرهم الله أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وجعل اتباع محمد علما لحبه .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ } . . . الاَية ، قال : إن أقواما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله ، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل ، فقال : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ } . . . الاَية . كان اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولهم .

وقال آخرون : بل هذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى : إن كان الذي يقولونه في عيسى من عظيم القول إنما يقولونه تعظيما لله وحبا له ، فاتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير . { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ } أي إن كان هذا من قولكم يعني في عيسى حبا لله وتعظيما له { فَاتّبِعُونِي يُحبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي ما مضى من كفركم { وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول محمد بن جعفر بن الزبير ، لأنه لم يجز لغير وفد نجران في هذه السورة ، ولا قبل هذه الاَية ذكر قوم ادّعوا أنهم يحبون الله ، ولا أنهم يعظمونه ، فيكون قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي } جوابا لقولهم على ما قاله الحسن .

وأما ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه ، فلا خبر به عندنا يصحّ ، فيجوز أن يقال : إن ذلك كذلك ، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال إلا أن يكون الحسن أراد بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى ، فيكون ذلك من قوله نظير إخبارنا ، فإذا لم يكن بذلك خبر على ما قلنا ، ولا في الاَية دليل على ما وصفنا ، فأولى الأمور بنا أن نلحق تأويله بالذي عليه الدلالة من آي السورة ، وذلك هو ما وصفنا ، لأن ما قبل هذه الاَية من مبتدإ هذه السورة وما بعدها خبر عنهم ، واحتجاج من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليل على بطول قولهم في المسيح ، فالواجب أن تكون هي أيضا مصروفة المعنى إلى نحو ما قبلها ، ومعنى ما بعدها .

فإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فتأويل الاَية : قل يا محمد للوفد من نصارى نجران : إن كنتم تزعمون أنك تحبون الله ، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون ، حبا منكم ربكم ، فحققوا قولكم الذي تقولونه ، إن كنتم صادقين باتباعكم إياي ، فإنكم تعلمون أني لله رسول إليكم ، كما كان عيسى رسولاً إلى من أرسل إليه ، فإنه إن اتبعتموني وصدقتموني على ما أتيتكم به من عند الله ، يغفر لكم ذنوبكم ، فيصفح لكم عن العقوبة عليها ويعفو لكم عما مضى منها ، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين رحيم بهم وبغيرهم من خلقه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، بحيث يحملها على ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه ، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته . { يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } جواب للأمر أي يرض عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه ، عبر عن ذلك بالمحبة على طريق الاستعارة أو المقابلة . { والله غفور رحيم } لمن تحبب إليه بطاعته واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم روي : أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل نزلت في وفد نجران لما قالوا : إنما نعبد المسيح حبا لله . وقيل : في أقوام زعموا على عهده صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل .