اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

قرأ العامة " تُحِبُّونَ " - بضم حرف المضارعة ، من " أحَبَّ " وكذلك { يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } .

وقرأ أبو رجاء العُطَارِديّ{[5371]} " تَحِبُّون ، يَحْبِبْكم " بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان ، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ .

وحكى أبو زيد : حَبَبْتُهُ ، أحِبُّه .

وأنشد :

فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ *** وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ{[5372]}

ونقل الزمخشريُّ : قراءة يَحبكم{[5373]} - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر ، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً ، أو وقْفاً جاز فيه لغتان : الفك والإدغام . وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة .

والحُبّ : الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع : حِباب وحِبَبَة ، حكاه الجوهريُّ .

وقرأ الجمهور " فَاتَّبِعُونِي " بتخفيف النون ، وهي للوقاية .

وقرأ الزُّهري بتشديدها{[5374]} ، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد ، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير ؛ لالتقاء الساكنين ، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله : { أَتُحَاجُّونِّي } وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ .

وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من " يغفر " في لام " لكم " .

وقال : هو خطأ وغلط على أبي عمرو . وقد تقدم تحقيقه ، وأنه لا خطأ ولا غلط ، بل هو لغة للعرب ، نقلها الناس ، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج .

فصل

اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ ، وهو أن اليهود كانوا يقولون :

{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فنزلت هذه الآية .

وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف .

- فقال : يا معشر قريش ، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبدها حباً لله : { لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] ، فقال الله - تعالى - : " قل " يا محمد { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ } فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فأنا رسولُه إليكم ، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله {[5375]} .

وقال القرطبي : " نزلت في وفد نجرانَ ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عز وجل " .

وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، والله إنا لنحب رَبَّنا ، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي }{[5376]} [ آل عمران : 31 ] .

قال ابن عرفة : المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له .

وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما ، واتباعه أمرهما ، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] [ ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ، قال الله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 32 ] ، أي : لا يغفر لهم ]{[5377]} .

قال سهل بن عبد الله : علامة حُبّ الله حُبّ القرآن ، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة ، حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة ، أن لا يحب نفسه ، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة .


[5371]:انظر: الشواذ 20، والمحرر الوجيز 1/422، والبحر المحيط 2/448، والدر المصون 2/69.
[5372]:البيت لغيلان بن شجاع النهشلي ينظر لسان العرب 1/289، والأشباه والنظائر 2/410، والخزانة 9/420، وشرح شواهد المغني 2/780 وشرح المفصل 7/138، الخصائص 2/220، ومغني اللبيب 1/36.
[5373]:انظر: الكشاف 1/353، وفي الشواذ 20 نسبتها إلى أبي رجاء. وانظر: البحر المحيط 2/448، والدر المصون 2/69.
[5374]:انظر: المحرر الوجيز 1/422، والبحر المحيط 2/448، والدر المصون 2/69.
[5375]:انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 8/16.
[5376]:أخرجه الطبري (6/322) من طريق بكر بن الأسود عن الحسن وأخرجه الطبري (6/322) وابن المنذر كما في "الدر المنثور" (2/30) من طريق أبي عبيدة الناجي عن الحسن. وأخرجه الطبري (6/323) وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (2/30) من طريق عباد بن منصور عن الحسن.
[5377]:بدل ما بين المعكوفين في أ: فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره، وإيثار طاعته، وابتغاء مرضاته، وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم، وثوابه لهم، وعفوه عنهم، فذلك قوله تعالى: "ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" يعني غفور في الدنيا، فيستر على العبد معصيته، رحيم في الآخرة بفضله، وكرمه.