روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (31)

/ { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى } ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية ؛ بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلاً لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني في ما آمركم به وأنهاكم عنه كذا قيل ، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا : المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة ، قال الغزالي عليه الرحمة في «الإحياء » : الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقاً ، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتاً ، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال : إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكاً من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ في كون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذاً حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درج البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلاً ، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

والقول بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى ساقط من القول ؛ لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر .

{ يُحْبِبْكُمُ الله } جواب الأمر وهو رأي الخليل . وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة ، وقيل : يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة ، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى .

{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يتجاوز لكم عنها { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لمن تحبب إليه بطاعته وتقرب إليه باتباعه نبيه صلى الله عليه وسلم ، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة ، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر وللاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة ، وقرئ تحبوني ، ويحبكم ، ويحببكم من حبه ، ومنه قوله :

أحب أبا ثروان من حب تمره *** وأعلم أن الرفق بالجار أرفق

ووالله لولا تمره ما حببته *** ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

ومناسة الآية لما قبلها كما قال الطيبي : أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا : { قُلِ اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] الخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت ، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلاً : { لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء } [ آل عمران : 28 ] الخ ؛ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه : { إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } [ آل عمران : 29 ] الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد ، زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلاً يقول : بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب ؟ فقيل : بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود .

واختلف في سبب نزولها فقال الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد : إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : «وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش : يا محمد إنما نعبد هذه حباً لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ } الخ ، وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها »

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } لأني سيد المحبين { يُحْبِبْكُمُ الله } وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق ، وروح الروح بلذة العشق ، واستغراق الحواس في بحر الأنس ، وطهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحبيب بعين الكل ، وغمض عين الكل عن الكونين ، وطيران السر في غيب الغيب ، وتخلق المحب بخلق المحبوب وهذا أصل المحبة وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا ، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات ، والمراقبات ، واستنشاق نفحات الصفات ، والتواضع والذل في الحركات والسكنات .

مساكين أهل العشق حتى قبورهم *** عليها تراب الذل بين المقابر

وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم ، لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة ، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب ، ولذا قالوا : لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه .

خليلي لو أحببتما لعلمتما *** محل الهوى من مغرم القلب صبه

تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى *** يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه *** وشوق على بعد المراد وقربه

وقد يقال : المحبة ثلاثة أقسام ، القسم الأول : محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها ، وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجراً على ما يعملون ، وفيه يقول أبو الطيب :

وما أنا بالباغي على الحب رشوة *** ضعيف هوى يرجى عليه ثواب

القسم الثاني : محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالاً وإعظاماً ولأنه أهل لذلك ، وإلى هذا القسم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله : " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " ، وقالت رابعة رحمها الله تعالى :

أحبك حبين حب الهوى *** وحب لأنك أهل لذاكا

وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد القسم الثالث : محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن «كنت كنزاً مخفياً » وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة ، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى ، وفي مثل ذلك قيل :

يقولون إن الحب كالنار في الحشا *** ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد

وما هو إلا جذوة مس عودها *** ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد

ويكفي في شرح الحب لفظه فإنه حاء وباء والحاء من حروف الحلق ، والباء شفوية ، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له : حب ، وشرح ذاك يطول ، وهذه محبة العبد لربه ، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضاً ، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث/ الرحمة فكأنه قيل لهم : اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته ، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم : اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال ، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم : اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه ، وهناك يرتفع البون من البين ، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير :

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة *** ترى الدهر عبداً طائعاً وله الحكم

{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجوداً لا يفنى كما قال : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به » الحديث { والله غَفُورٌ } يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم { رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجوداً حقانية خيراً من ذلك