التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة ، لأن قلوبهم خالية من الإيمن . ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله ، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً . . . وَهُمْ كَافِرُونَ } .

روى أن بعض المنافقين قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - عندما دعاهم إلى الخروج معه إلى تبوك : ائذن لى في القعود وهذا مالى أعينك به ، فنزل قوله - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ . . } .

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء ؛ أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين ، أى : من غير إجبار أحد لكم ، أو كارهين ، أى بأن تجبروا على هذا الإِنفاق إجباراً ، فلن يقبل منكم ذلك الإِنفاق .

والكلام وإن كان قد جاء في صورة الأمر ، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله .

فإن قلت : كيف أمرهم بالإِنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟

قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله - تعالى - { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم أنفتم طوعاً أو كرها ، ونحوه قوله - تعالى - : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقول الشاعر :

أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة . . . لدينا ولا مقلية إن تقلت

أى : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم . . أم لم تستغفر لهم . ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم وجاء الكلام في صورة الأمر ، للمبالغة في تساوى الأمرين ، وعدم الاعتداء بنفقتهم سواء أقدموها عن طواعية أم عن كراهية .

وقوله . { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } بيان لثمرة إنفاقهم . أى : لن يتقبل منكم ما أنفقتموه ، ولن تنالوا عليه ثواباً .

وقوله : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } تعليل لعدم قبول نفقاتهم .

أى : لن تقبل منم نفاقتكم بسبب عتوكم في الكفر ، وتمردكم على تعاليم الإِسلام وخروجكم عن الطاعة والاستقامة .

قال القرطبى ما ملخصه . وفى الآية دليل على أن أفعاله الكافر إذا كانت برأ كصلة القرابة ، وجبر الكسير ، وإغاثة الملهوف ، ولا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا .

دليله ما رواه مسلم " عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟

قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " .

وروى عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " .

وقال الجمل : وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين ، فهى عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله ، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين ، قد عرض ماله ، وهو يعتذر عن الجهاد ، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان . فرد اللّه عليهم مناورتهم ، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اللّه ، لأنهم إنما ينفقون عن رياء وخوف ، لا عن إيمان وثقة ، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم ، فهو في الحالتين مردود ، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند اللّه :

( قل : أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم ، إنكم كنتم قوماً فاسقين . وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه ورسوله ، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ، ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) .

إنها صورة المنافقين في كل آن . خوف ومداراة ، وقلب منحرف وضمير مدخول . ومظاهر خالية من الروح ، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير .

والتعبير القرآني الدقيق :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين : أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره ، وعلى أيّ حال شئتم من حال الطوع والكره ، فإنكم إن تنفقوها لَن يَتَقَبّل الله مِنْكُم نفقاتكم ، وأنتم في شكّ من دينكم وجهل منكم بنبوة نبيكم وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه . إنّكُمْ كُنْتُمْ قَوْما فاسِقِينَ يقول : خارجين عن الإيمان بربكم . وخرج قوله : أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها مخرج الأمر ومعناه الخبر ، والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها «إن » التي تأتي بمعنى الجزاء ، كما قال جلّ ثناؤه : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر ، ومنه قول الشاعر :

أسِيِئي بِنا أوْ أحْسِني لا مَلُومَة *** لَدَيْنا وَلا مَقْلِيّةً إنْ تَقَلّتِ

فكذلك قوله : أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها إنما معناه : إن تنفقوا طوعا أو كرها ، لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم : هذا مالي أعينك به .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قال الجدّ بن قيس : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتّن ، ولكن أعينك بمالي قال : ففيه نزلت أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ قال : لقوله : أعينك بمالي .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

{ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يُتقبّل منكم } أمر في معنى الخبر ، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا أو كرها . وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم . وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي . ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وان لا يثابوا عليه وقوله : { إنكم كنتم قوما فاسقين } تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له .