الضمير فى قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً } يعود لأهل الكتاب الذين تقدم الحديث عنهم وهو اسم ليس ، وخبرها قوله { سَوَآءً } والجملة مستأنفه للثناء على من يستحق الثناء منهم بعد أن وبخ القرآن من يستحق التوبيخ منهم .
قال ابن كثير : والمشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم . أى لا يستوى من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب ، وهؤلاء الذين أسلموا ، ولهذا قال - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً } أى ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم .
وقوله - تعالى - { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } استئناف مبين لكيفية عدم التساوى ومزيل لما فيه من إيهام .
أى : ليس أهل الكتاب متساوين فى الكفر وسوء الأخلاق ، بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الحق ملازمة له ، لم تتركه كما تركه الأكثرون من أهل الكتاب وضيعوه .
فمعنى قائمة : مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام .
أو معناها : ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له غير مضطربة فى التمسك به ، كما فى قوله - تعالى - { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } أى ملازمة لمطالبته بحقك . ومنه قوله - تعالى - { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } أى ملازما له .
والمراد بهذه الطائفة من أهل الكتاب التى وصفها الله - تعالى - بأنها { أُمَّةٌ } قائمة أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه فى السر والعلن ، كعبد الله بن سلام ، وأصحابه ، والنجاشى ومن آمن معه من النصارى . فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله ، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم .
ثم تابع القرآن حديثه عن أوصافهم الكريمة فقال { يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
وقوله { يَتْلُونَ } من التلاوة وهى القراءة ، وأصل الكلمة من الإتباع ، فكأن التلاوة هى اتباع اللفظ اللفظ .
والمراد بآيات الله هنا : ما أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن .
وقوله : { آنَآءَ الليل } أى أوقاته وساعاته . والآناء جمع إنىَ - كمعاً وأمعاء - أو جمع أنىَ - كعصاً - ، أو جمع أنىَ وإنى وإنو . فالهزة فى آناء منقلبة عن ياء كرداء : أو عن واو ككساء .
والمراد بالسجود فى قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } الصلاة لأن السجود لا قراءة فيه وإنما فيه التسبيح ، فقد روى مسلم فى صحيحه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " .
والمعنى : ليس أهل الكتاب متساوين فى الاتصاف بما ذكر من القبائح ، بل منهم قوم سلموا منها ، وهم الذين استقاموا على الحق ولزموه ، وأكثروا من تلاوة آيات الله فى صلاتهم التى يتقربون بها إلى الله - تعالى - آناء الليل وأطراف النهار .
قال الآلوسى ما ملخصه . والمراد بصلاتهم هذه التهجد - على ما ذهب إليه البعض - . وعلل هذا بأنه أدخل فى المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة ، لأنها فى المكتوبة وظيفة الإمام .
والذى عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة . واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائى وابن جرير والطبرانى عن ابن مسعود قال آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : " أما إنه لا يصلى هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب " وعبر عن الصلاة بالسجود ، لأنه أدل على كمال الخضوع والصلاة تسمى سجودا وسجدة ، وركوعا وركعة .
{ لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { لَيْسُوا سَوَاءً } ليس فريقا أهل الكتاب ، أهل الإيمان منهم والكفر سواء ، يعني بذلك : أنهم غير متساوين ، يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد والخير والشرّ . وإنما قيل : ليسوا سواء ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرَا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } ثم أخبر جلّ ثناؤه عن حال الفريقين عنده ، المؤمنة منهما والكافرة ، فقال : { لَيْسُوا سَوَاء } : أي ليس هؤلاء سواء ، المؤمنون منهم والكافرون . ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم ، وأثنى عليهم بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونَخْب الجَنان ، ومحالفة الذلّ والصغار ، وملازمة الفاقة والمسكنة ، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الاَخرة ، فقال : { مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } . . . الاَيات الثلاث ، إلى قوله : { واللّهُ عَلِيمٌ بالمُتّقِينَ } فقوله : «أمة قائمة » مرفوعة بقوله : «من أهل الكتاب » .
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدّمين منهم في صناعتهم ، أن ما بعد سواء في هذا الموضع من قوله : { أُمّةٌ قائمَةٌ } ترجمة عن سواء ، وتفسير عنه بمعنى : لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل ، وأخرى كافرة ، وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين ، وهي الأمة القائمة ، ومثّلوه بقول أبي ذؤيب :
عَصَيْتُ إلَيْها القَلْبَ إني لأمْرِها *** سَمِيعٌ فَما أدْرِي أرُشْدٌ طِلابُها
ولم يقل : «أم غير رشد » اكتفاء بقوله : «أرشد » من ذكر «أم غير رشد » . وبقول الاَخر :
أزَالُ فلا أدْري أهَمّ هَمَمْتَهُ *** وذو الهَمّ قِدْما خاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل المريد أن يقول : سواء أقمت أم قعدت ، سواء أقمت حتى يقول أم قعدت ، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيا بواحد دون ما كان ناقصا عن ذلك ، وذلك نحو ما أبالي أو ما أدري ، فأجازوا في ذلك ما أبالي أقمت ، وهم يريدون : ما أبالي أقمت أم قعدت ، لاكتفاء ما أبالي بواحد ، وكذلك في ما أدري ، وأبوا الإجازة في سواء من أجل نقصانه ، وأنه غير مكتف بواحد ، فأغفلوا في توجيههم قوله : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ } على ما حكينا عنهم إلى ما وجهوه إليه مذاهبهم في العربية ، إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع سواء ، وأخطئوا تأويل الاَية ، فسواء في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء ، لا بالمعنى الذي تأوله من حكينا قوله . وقد ذكر أن قوله : { مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ } . . . الاَيات الثلاث ، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، فحسن إسلامهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدّقوا ورغبوا في الإسلام ومنحوا فيه ، قالت : أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكتاب أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ } إلى قوله : { وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحينَ } .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لَيْسُوا سَواءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ } . . . الاَية ، يقول : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { أُمّةٌ قائمَةٌ } : عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سلام أخوه ، وسعية ومبشر ، وأسيد وأسد ابنا كعب .
وقال آخرون : معنى ذلك : ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحقّ الله سواء عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله : { لَيْسُوا سَوَاءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ } قال : لا يستوي أهل الكتاب ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ } . . . الاَية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قائمة .
وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال : قد تمت القصة عند قوله : { لَيْسُوا سَوَاءً } عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب ، وأهل الكفر منهم ، وأن قوله : { مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ } . خبر مبتدأ عن مدح مؤمنيهم ، ووصفهم بصفتهم ، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج . ويعني جلّ ثناؤه بقوله : { أُمّةٌ قائمَةٌ } : جماعة ثابتة على الحقّ . وقد دللنا على معنى الأمة فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وأما القائمة ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناها : العادلة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { أُمَة قائمَةٌ } قال : عادلة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { أَمّةٌ قائمَةٌ } يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { أُمّةٌ قائِمَةٌ } يقول : قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ } يقول : أمة مهتدية قائمة على أمر الله ، لم ننزع عنه وتتركه كما تركه الاَخرون وضيعوه .
وقال آخرون : بل معنى قائمة : مطيعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أُمّةٌ قائمَةٌ } الاَية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود ، كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله والقانتة : المطيعة .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ما قاله ابن عباس وقتادة ، ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم ، وإن كان سائر الأقال الأخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك . وذلك أن معنى قوله : { قائمةٌ } مستقيمة على الهدى ، وكتاب الله وفرائضه ، وشرائع دينه ، بالعدل والطاعة ، وغير ذلك من أسباب الخير من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَثَلُ القائِمِ على حُدُودِ اللّهِ وَالوَاقِعِ فِيها ، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً ، ثُمّ ضَرَبَ لهُمْ مَثَلاً » فالقائمُ على حُدُودِ اللّهِ هُوَ الثّابِت عَلى التّمَسّكِ بِما أمَرَهُ اللّهُ بهِ وَاجْتِنابِ ما نَهاهُ اللّهُ عَنْهُ .
فتأويل الكلام : من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله ، متمسكة به ، ثابتة على العمل بما فيه ، وما سنّ له رسوله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
يعني بقوله : { يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ } : يقرءون كتاب الله آناء الليل ، ويعني بقوله : { آياتِ اللّهِ } : ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ ، يقول : يتلون ذلك آناء الليل ، يقول : في ساعات الليل ، فيتدبرونه ويتفكرون فيه . وأما { آناءَ اللّيْلِ } : فساعات الليل ، واحدها : إِنْيٌ ، كما قال الشاعر :
حُلوٌ ومُرّ كعْطفِ القِدْحِ مِرّتَهُ *** في كُلّ إنْيٍ قَضَاهُ اللّيْلُ يَنْتَعِلُ
وقد قيل إن واحد الاَناء : إِنى مقصور ، كما واحد الأمعاء : مِعًى .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : ساعات الليل ، كما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ } : أي ساعات الليل .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : { آناءَ اللّيْلِ } : ساعات الليل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول : { آناءَ اللّيْلِ } : ساعات الليل .
وقال آخرون { آناءَ اللّيْلِ } : جوف الليل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ } أما آناء الليل : فجوف الليل .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الأخيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ } : صلاة العتمة ، هم يصلونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة كان عند بعض أهله ونسائه ، فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فبشرنا وقال : «إنه لا يُصَلّي هذه الصّلاة أحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ » ، فأنزل الله : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ اناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
حدثني يونس ، قال : ثنا ، عليّ بن معبد ، عن أبي يحيى الخراساني ، عن نصر بن طريف ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء يريد العتمة فقال لنا : «ما على الأرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأدْيَانِ يَنْتَظِرُ هذه الصّلاةَ في هذا الوَقْتِ غَيْرُكُمْ » قال : فنزلت : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، قال : بلغني أنها نزلت : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناء اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدونَ } فيما بين المغرب والعشاء .
وهذه الأقوال التي ذكرتها على اختلافها متقاربة المعاني ، وذلك أن الله تعالى ذكره ، وصف هؤلاء القوم ، بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل ، وهي آناؤه ، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليا لها آناء الليل ، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء ، ومن تلاها جوف الليل ، فكلّ تال له ساعات الليل .
غير أن أولى الأقوال بتأويل الاَية ، قول من قال : عني بذلك : تلاوة القرآن في صلاة العشاء ، لأنها صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب ، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله .
وأما قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى السجود في هذا الموضع اسم الصلاة لا السجود ، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع ، فكان معنى الكلام عنده : يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون ، وليس المعنى على ما ذهب إليه ، وإنما معنى الكلام : من أهل الكتاب أمة قائمة ، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم ، وهم مع ذلك يسجدون فيها ، فالسجود هو السجود المعروف في الصلاة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {لَيْسُوا سَوَاءً} ليس فريقا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر سواء، يعني بذلك: أنهم غير متساوين، يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد والخير والشرّ. وإنما قيل: ليسوا سواء، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: {وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرَا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ} ثم أخبر جلّ ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة، فقال: {لَيْسُوا سَوَاء}: أي ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم، وأثنى عليهم بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونَخْب الجَنان، ومحالفة الذلّ والصغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الاَخرة، فقال: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}... الآيات الثلاث، إلى قوله: {واللّهُ عَلِيمٌ بالمُتّقِينَ}...
وقد ذكر أن قوله: {مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ}... الآيات الثلاث، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا، فحسن إسلامهم...
وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحقّ الله سواء عند الله...
ويعني جلّ ثناؤه بقوله: {أُمّةٌ قائمَةٌ}: جماعة ثابتة على الحقّ... وأما القائمة، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناها: العادلة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه... وقال آخرون: بل معنى قائمة: مطيعة...
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ما قاله ابن عباس وقتادة، ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله: {قائمةٌ} مستقيمة على الهدى، وكتاب الله وفرائضه، وشرائع دينه، بالعدل والطاعة، وغير ذلك من أسباب الخير من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ القائِمِ على حُدُودِ اللّهِ وَالوَاقِعِ فِيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً، ثُمّ ضَرَبَ لهُمْ مَثَلاً» فالقائمُ على حُدُودِ اللّهِ هُوَ الثّابِت عَلى التّمَسّكِ بِما أمَرَهُ اللّهُ بهِ وَاجْتِنابِ ما نَهاهُ اللّهُ عَنْهُ.
فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه، وما سنّ له رسوله صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}. يعني بقوله: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ}: يقرءون كتاب الله آناء الليل، ويعني بقوله: {آياتِ اللّهِ}: ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ، يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبرونه ويتفكرون فيه. وأما {آناءَ اللّيْلِ}: فساعات الليل، واحدها: إِنْيٌ...
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما قلنا...وقال آخرون {آناءَ اللّيْلِ}: جوف الليل... وقال آخرون: بل عني بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الأخيرة...
وقال آخرون: بل عني بذلك قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء...
وهذه الأقوال التي ذكرتها على اختلافها متقاربة المعاني، وذلك أن الله تعالى ذكره، وصف هؤلاء القوم، بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوف الليل، فكلّ تال له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: عني بذلك: تلاوة القرآن في صلاة العشاء، لأنها صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله. وأما قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى السجود في هذا الموضع اسم الصلاة لا السجود، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع، فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فالسجود هو السجود المعروف في الصلاة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه. قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في النصارى، ولفظ {أهل الكتاب} يعم الجميع، والضمير في {ليسوا} لمن تقدم ذكره في قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110]...
فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110] وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه {ليسوا سواء} و {الكتاب} على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط، والمعنى: {من أهل الكتاب} وهم أهل القرآن أمة قائمة...
وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة، إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة {آناء الليل} بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء، وحينئذ كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قال ابنُ وهب: قال مالك: يعني قائمة بالحق، يريد قَوْلاً وفعلاً؛ فيعودُ الكلام إلى الآية المتقدمة: {ولْتكن منكم أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ}.
وقد اتّفق المفسِّرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهْل الكتاب، وعليه يَدُلُّ ظاهرُ القرآن؛ ومفتتح الكلام نَفْيُ المساواة بين مَنْ أسلم منهم وبين مَنْ بَقِيَ منهم على الكفر، إلاّ أنه رُوي عن ابن مسعود أنَّ معناه نفْيُ المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن ابن عباس أنها نزلَتْ في عبدالله بن سلام ومَنْ أسلم معه من أهل الكتاب.
وقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} تمامُ كلام، ثم ابتدأ الكلامَ بوصْفِ المؤمنين بالإيمان والقرآن والصلاة؛ وهذه الخصالُ هي من شعائر الإسلام، لاسيما الصلاة وخاصة في الليل وَقْتَ الراحة.
وقيل: إنها الصلاة مطلقاً. وقيل: إنها صلاة المغرب والعشاء الآخرة.
قال ابنُ مسعود: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةً وقد أخَّر الصلاة فمنَّا المضطجع. ومنا المصلي؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يصلي أحدٌ من أهل الأرض هذه الصلاة غيركم».
والصحيحُ أنه في الصلاة مطلقاً. وعن أبي موسى عنه عليه السلام: «ما مِنْ أحد من الناس يُصَلِّي هذه الساعة غيركم». وهذه في العَتَمة تأكيدٌ للتخصيص وتبيين للتفضيل.
لما قال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} كان تمام الكلام أن يقال: ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معا، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} يتلون القرآن في تهجدهم. عبر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك: {ليسوا سوآء} أي في هذه الأفعال، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً. ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم: {من أهل الكتاب} فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم {أمة} أي جماعة يحق لها أن تؤم {قائمة} أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه. غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه. ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال: {يتلون} أي يتابعون مستمرين {آيات الله} أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها {آناء الليل} أي ساعاته {وهم يسجدون} أي يصلون في غاية الخضوع...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
المرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركةِ في أصل الاتصافِ بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتصاف بما ذُكر من القبائح والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى: {منْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} استئنافٌ مبينٌ لكيفية عدمِ تساويهم، ومزيل لما فيه من الإبهام... وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار، وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحكمِ وتأكيدِه، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على التجدد...، وقيل: هي مستأنفةٌ والمعنى أنهم يقومون تارةً ويسجدون أخرى يبتغون الفضلَ والرحمةَ بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عز وجل كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} [الفرقان، الآية 64]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما بين وصف فاسقيهم كان من العدل الإلهي أن يبين وصف مؤمنيهم، ولذلك قال: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)... قال الأستاذ الإمام: هذه الآية من العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع وإزالة الإيهام السابق، وهي دليل على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن كل من أخذه بإذعان، وعمل فيه بإخلاص، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو من الصالحين. وفي هذا العدل قطع لاحتجاج أهل الكتاب الذين يعرفون من أنفسهم الإيمان والإخلاص في العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يعني الأستاذ أنه لولا مثل هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين ونحن مؤمنون به مخلصون له- وفيه استمالة لهم وتناهٍ عن التفرقة بين الأمم والملل التي لم يكن يعترف فيها أحد الفريقين بفضيلة ولا مزية للآخر، كأنه بمجرد مخالفته له في بعض الأشياء- وإن كان معذورا- تتبدل حسناته سيئات... ثم إنه ذكر اختلاف المفسرين في قوله: (قائمة) ورجح أن معناها موجودة ثابتة على الحق، قال: وفي ذلك تعريض بالمنحرفين عن الحق بأنهم لا يعدون من أهل الوجود وإنما حكمهم حكم العدم...
أما قوله تعالى: (يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) فمعناه على القول بأن المراد بهم من دخل في الإسلام ظاهر، وعلى القول الآخر المختار أنهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه له والثناء عليه عز وجل وهي كثيرة في كتبهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {من أهل الكتاب أمة قائمة...} مبيّنة لإبهام {ليسوا سواء} والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة، فلأمّة هنا بمعنى الفريق. وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] لأنهم صاروا من المسلمين. وعدل عن أن يقال: منهم أمَّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب: ليكون ذا الثناء شاملاً لصالحي اليهود، وصالحي النَّصارى، فلا يختصّ بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الَّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه، وكذلك صالحو النَّصارى قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجَّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية...
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا من إنصاف القرآن، فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب... {ليسوا سواء}. أي ليسوا متساوين في هذه العمال وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقا، فليسوا جميعا أشرارا. وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعا مطلقا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لا يجد داعيا، أو يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين، ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلا كما حكى الله تعالى عنه: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم عن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب28 يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد29} [غافر]... {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} أي من أهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم- طائفة تؤم وتقصد موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى قائمة على هذا موجودة... ومعنى يسجدون أي يخضعون ويتضامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم. يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره... وقد ذكر ذلك الوصف مصدرا ب"هم" إذ يقول: وهم يسجدون، فلم يقل ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شئونهم،وليس حالا تعرض لهم، إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يبتدئ هذا الربع من سورة آل عمران بوصف طائفة من أهل الكتاب لم تسلك مسلك العناد والجحود الذي سلكته بقية الطوائف، بل انفصلت عنها انفصالا تاما، وتنازلت عما كانت تعيش عليه من الأساطير والأوهام، وآمنت عن اقتناع وإخلاص برسالة الإسلام، ولم تلبث هذه الطائفة أن وجدت في دين الإسلام الحق ما يستجيب لرغباتها، ويستثمر جميع طاقاتها فرديا واجتماعيا، فمن تلاوة لكتاب الله تلاوة تدبر واعتبار، ولا سيما في لحظات السكون والهدوء خلال فترات الليل، ومن عبادة الله ومناجاة مقامه الأقدس، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، قياما بنشر الدعوة الإسلامية، ومساهمة في إصلاح المجتمع، وتطبيقا للمنهج الإسلامي على الحياة اليومية التي يحياها الناس، ومن قيام بأعمال البر وتسابق على مساعي الخير على اختلاف وجوهها، وذلك قوله تعالى في وصف هذه الطائفة تنويها بها، وتقديرا لموقفها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الإسلام وخصيصة البحث عن الحقّ:
بعد كلّ ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن كما هو شأنه دائماً يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحقّ، ولهذا يقول: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون). أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان، وهذا هو أُسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس اعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير، لا غير...