التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

ثم بين - سبحانه - على سبيل الإجمال ، أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسلاً آخرين ، متتابعين فى إرسالهم . كل واحد يأتى فى أعقاب أخيه . ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور . فقال - تعالى - : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى . . . } .

ولفظى { تَتْرَى } مصدر كدعوى ، وألفه للتأنيث وأصله : وَتْرى فقلبت الواو تاء ، وهو منصوب على الحال من رسلنا .

أى : ثم أرسلنا بعد ذلك رسلنا متواترين متتابعين واحداً بعد الآخر ، مع فترة ومهلة من الزمان بينهما .

قال القرطبى : ومعنى " تترى " : تتواتر ، ويتبع بعضهم بعضاً ترغيباً وترهيباً . .

قال الأصمعى : واترت كتبى عليه ، أتبعت بعضها بعضاً إلى أن بين كل واحد منها وبين الآهر مهلة . . . وقرأن ابن كثير وأبو عمرو { تَتْرًى } بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء ، كقولك : حمدًا وشكرًا . . .

ثم بين - سبحانه - موقف كل أمة من رسولها فقال : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ . . } .

أى : كلما جاء رسول كل أمة إليها ليبلغها رسالة الله - تعالى - وليدعوها إلى عبادته وحده - سبحانه - كذب أهله هذه الأمة هذا الرسول المرسل إليهم . وأعرضوا عنه وآذوه . . .

قال ابن كثير : " وقوله : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعنى جمهورهم وأكثرهم ، كقوله - تعالى - { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وأضاف - سبحانه - الرسول إلى الأمة ، للإشارة إلى أن كل رسول قد جاء إلى الأمة المرسل إليها . وفى التعبير بقوله : { كُلَّ مَا جَآءَ . . . } إشعار بأنهم قابلوه بالتكذيب . بمجرد مجيئه إليهم ، أى : إنهم بادروه بذلك بدون تريث أو تفكر .

فماذا كانت عاقبتهم ؟ كانت عاقبتهم كما بينها - سبحانه - فى قوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .

أى : فأتبعنا بعضهم بعضاً فى الهلاك والتدمير ، وجعلناهم بسبب تكذيبهم لرسلهم أحاديث يتحدث الناس بها على سبيل التعجيب والتلهى ، ولم يبق بين الناس إلا أخبارهم السيئة .

وذكرهم القبيح { فَبُعْداً } وهلاكاً لقوم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون للهدى .

قال صاحب الكشاف : " وقوله { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أى : أخباراً يسمر بها ، ويتعجب منها . والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة : التى هى مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة . وهى : ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً ، وهو المراد هنا " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

23

ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون :

ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . ثم أرسلنا رسلنا تترى . كلما جاء أمة رسولها كذبوه . فاتبعنا بعضهم بعضا ، وجعلناهم أحاديث . فبعدا لقوم لا يؤمنون . .

هكذا في إجمال ، يلخص تاريخ الدعوة ، ويقرر سنة الله الجارية ، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة ، وموسى وعيسى في أواخرها . . كل قرن يستوفي أجله ويمضي : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) . وكلهم يكذبون : ( كلما جاء أمة رسولها كذبوه ) . وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله : ( فأتبعنا بعضهم بعضا ) . وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون : ( وجعلناهم أحاديث )تتناقلها القرون .

ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب : ( فبعدا لقوم لا يؤمنون ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا تَتۡرَاۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةٗ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُۖ فَأَتۡبَعۡنَا بَعۡضَهُم بَعۡضٗا وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَۚ فَبُعۡدٗا لِّقَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : ثُمّ أرْسَلْنا إلى الأمم التي أنشأنا بعد ثمود رُسُلَنا تَتْرَى يعني : يتبع بعضها بعضا ، وبعضها في أثر بعض . وهي من المواترة ، وهي اسم لجمع مثل «شيء » ، لا يقال : جاءني فلان تترى ، كما لا يقال : جاءني فلان مواترة ، وهي تنوّن ولا تنوّن ، وفيها الياء ، فمن لم ينوّنها فَعْلَى من وترت ، ومن قال «تترا » يوهم أن الياء أصلية كما قيل : مِعْزًى بالياء ، ومَعْزا وبُهْمَى بُهْما ونحو ذلك ، فأجريت أحيانا وترك إجراؤها أحيانا ، فمن جعلها «فَعْلَى » وقف عليها ، أشاء إلى الكسر ، ومن جعلها ألف إعراب لم يشر ، لأن ألف الإعراب لا تكسر ، لا يقال : رأيت زيدا ، فيشار فيه إلى الكسر .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى يقول : يَتْبع بعضها بعضا .

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنَا تتْرَى يقول : بعضها على أثر بعض .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : تَتْرَى قال : اتباع بعضها بعضا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ثُمّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى قال : يتبع بعضها بعضا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى قال : بعضهم على أثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا .

واختلفت قرّاء الأمصار في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة وبعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة : «تَتْرًى » بالتنوين . وكان بعض أهل مكة وبعض أهل المدينة وعامة قرّاء الكوفة يقرءونه : تَتْرَى بإرسال الياء على مثال «فَعْلَى » . والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان في كلام العرب بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب غير أنّي مع ذلك أختار القراءة بغير تنوين ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما .

وقوله : كُلّما جاءَ أُمّةً رَسُولُهَا كَذّبُوهُ يقول : كلما جاء أمة من تلك الأمم التي أنشأناها بعد ثمود رسولها الذي نرسله إليهم ، كذّبوه فيما جاءهم به من الحقّ من عندنا . وقوله : فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضا يقول : فأتبعنا بعض تلك الأمم بعضا بالهلاك فأهلكنا بعضهم في إثر بعض . وقوله : وَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ للناس ومثلاً يُتَحدّث بهم ، وقد يجوز أن يكون جمع حديث . وإنما قيل : وَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ لأنهم جُعلوا حديثا ومثلاً يُتمثّل بهم في الشرّ ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا ولا أُحدوثة . وقوله : فَبُعْدا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يقول : فأبعد الله قوما لا يؤمنون بالله ولا يصدّقون برسوله .