وقوله - سبحانه - : { وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } . بيان للعذاب المعد للمشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم بعد بيان العقاب الذى حل بالسابقين .
والمراد بالصحية هنا : النفخة الثانية التى ينفخها إسرافيل فى الصور ، فيقوم الخلائق من قبورهم للحساب والجزاء .
وقيل المراد بها النفخة الأولى ، وضعف هذا القول بأنهم لن يكونوا موجودين وقتها حتى يصعقوا بها . .
وينظرون هنا بمعنى ينتظرون . وجعلهم - سبحانه - منتظرين للعقاب مع أنهم لم ينتظروه على سبيل الحقيقة لإِشعار بتحقق وقوعه ، وأنهم بصدد لقائه ، فهم لذلك فى حكم المنتظرين له .
أى : وما ينتظر هؤلاء المشركون الذين هم أمثال المهلكين من قبلهم ، { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } أى : نفخة واحدة ينفخا إسرافيل { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } وهذه النفخة { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أى : ليس لها من توقف وانتظار حتى ولو بمقدار فواق ناقة وهو الزمن الذى يكون بين الحلبتين ، أو الزمن الذى يكون فيه رجوع اللبن فى الضرع بعد الحلب .
والمقصود بيان أن هذه الصيحة سريعة الوقوع ، وأنها لن تتأخر عن وقتها ، وأنها صيحة واحدة فقط يتم بعدها كل شئ يتعلق بالبعث والجزاء .
قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : قوله : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } يجوز أن يكون قوله { لها } رافعا لقوله : { مِن فَوَاقٍ } على الفاعلية لاعتماده على النفى . وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر ، وعلى التقديرين فالجملة المنفية صفة لصيحة ، ومن مزيدة . .
والفواق - بفتح الفاء وضمها - الزمان الذى بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع - والمعنى : ما لها من توقف قدر فواق ناقة . وفى الحديث : " العيادة قدر فوق ناقة " .
ذلك كان شأن الأحزاب الغابرة في التاريخ . . فأما هؤلاء فمتروكون - في عمومهم - إلى الصيحة التي تنهي الحياة في الأرض قبيل يوم الحساب :
( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) . .
هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة . وهي المسافة بين الحلبتين ! لأنها تجيء في موعدها المحدد ، الذي لا يستقدم ولا يستأخر . كما قدر الله لهذه الأمة الأخيرة أن ينظرها ويمهلها ، فلا يأخذها بالدمار والهلاك كما أخذ من قبل أولئك الأحزاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَنظُرُ هََؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَما يَنْظرُ هَؤُلاءِ المشركون بالله من قُريش إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعني بالصيحة الواحدة : النفخة الأولى في الصور ما لَهَا مِنْ فَوَاقِ يقول : ما لتلك الصيحة من فيقة ، يعني من فتور ولا انقطاع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني : أمة محمد ما لهَا مِنْ فَوَاقٍ .
حدثنا أبو كُرَيْب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ، عن يزيد بن زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ لمّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَلَقَ الصّورَ ، فَأعْطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ على فِيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ » . قال أبو هريرة : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : «قَرْنٌ » ، قال : كيف هو ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ : نَفْخَةُ الفَزَعِ الأُولى ، والثّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ : نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ ، يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، وَيَأْمُرُهُ اللّهُ فَيُدِيمُها وَيُطَوّلَها ، فَلا يَفْتَرُ وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَها مِنْ فَوَاقٍ » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : فقال بعضهم : يعني بذلك : ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : من تَرداد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يقول : ما لها من رجعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : قال : من رجوع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يقول : ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا .
وقال آخرون : الصيحة في هذا الموضع : العذاب . ومعنى الكلام : ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم ، لا إفاقة لهم منه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : قال : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، يا لها من صيحة لا يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشى عليه وكما يفيق المريض تهلكهم ، ليس لهم فيها إفاقة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة مِنْ فَوَاقٍ بفتح الفاء . وقرأته عامة أهل الكوفة : «مِنْ فُوَاقٍ » بضم الفاء .
واختلف أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها ، فقال بعض البصريين منهم : معناها ، إذا فتحت الفاء : ما لها من راحة ، وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بين الحلبتين . وكان بعض الكوفيين منهم يقول : معنى الفتح والضمّ فيها واحد ، وإنما هما لغتان مثل السّوَاف والسّواف ، وجَمام المكوك وجُمامة ، وقَصاص الشعر وقُصاصة .
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان ، وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح ، ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح فيه والضم ، والضم ، لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى . فإذ كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب وأصل ذلك من قولهم : أفاقت الناقة ، فهي تفيق إفاقة ، وذلك إذا رَدّت ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى ، وذلك أن ترضع البهيمة أمها ، ثم تتركها حتى ينزل شيء من اللبن ، فتلك الإفاقة يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة ، كما قال الأعشى :
حتى إذَا فِيْقَةٌ فِي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ *** جاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقّ النّفْسِ لوْ رَضِعا
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.