وقوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا . . } معطوف على { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } .
والرواسى : جميع راس من الرسو - بفتح الراء وسكون السين - بمعنى الثبات والاستقرار فى المكان ، يقال : رسا الشئ إذا ثبت واستقر . وهو صفة لموصوف محذوف .
أى : وجعل فيها جبالا رواسى من فوقها ، لكى تستقر وتثبت ، ولا تميد أو تضطرب بكم .
وقال - تعالى - : { مِن فَوْقِهَا } لبيان الواقع ، إذ وجود الجبال من فوق الأرض ، ومشاهدة الإِنسان لذلك بعينيه ، يزيده اقتناعا بقدرة الله - تعالى - الباهرة وحكمته البليغة .
{ وَبَارَكَ فِيهَا } أى : وجعلها مباركة زاخرة بأنواع الخيرات والمنافع ، عن طريق الزروع والثمار المبثوثة فوقها ، والمياه التى تخجر من جوفها . والكنوز التى تحصل من باطنها .
{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } والأقوات : جمع قوت . والمراد بها أرزاق أهل الأرض وما يصلحهم .
أى : وجعل أقوات أهلها يحتاجون إليها فى معايشهم ومنافعهم ، على مقادير محددة معينة ، بحيث نشر فى كل قطر من أقطارها أقواتا تناسب أهله ، وبذلك يتبادل الناس المنافع فيما بينهم ، فيعمر الكون ، ويزيد الاتصال والتعارف فيما بينهم .
قال ابن جرير : بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى هذه الآية : والصواب فى القول فى ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - أخبر أنه قدر فى الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش . ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } أنه قدر فيها قوتا دون قوت ، بل عم الخبر عن تقديره جميع الأقوات . .
وقوله - تعالى - : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } متعلق بمحذوف يدل ، عليه ما قبله .
أى : خلق الأرض ، وجعل فيه رواسى من فوقها ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها فى تمام أربعة أيام ، فتكون المدة التى خلق فيها الأرض وما عليها أربعة أيام .
وقوله - سبحانه - : { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } تأكيد لما دلت عليه الآية الكريمة من أن خلق كل من الأرض وما فيها وما عليها قد حدث فى أربعة أيام .
قال الآلوسى : وقيدت الأيام الأربعة بقوله : { سَوَآءً } فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة الأيام . أى : - فى أربعة أيام - استوت سواء ، أى : استواء .
وقوله - تعالى - : { لِّلسَّآئِلِينَ } متعلق بمحذوف وقع خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هذا الحصر فى أربعة ، كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض ، وما فيها . .
وقال الجمل فى حاشيته : فإن قيل لم جعلت مدة خلق الأرض بما فيها ، ضعف مدة خلق السموات ، مع كون السماء أكبر من الأرض وأكثر مخلوقات وعجائب ؟
قلت : للتنبيه على أن الأرض هى المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين ومن كثرة المنافع ، فزادات مدتها ليكون ذلك أدخل فى المنة على ساكنيها ، وللاعتناء بشأنهم وشأنهم - أيضا - زادت مدتها لما فيها من الابتلاء بالمعاصى والمجاهدات والمعالجات . .
( وجعل فيها رواسي من فوقها ) . . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال( رواسي )وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي ( أن تميد بكم )أي إنها هي راسية ، وهي ترسي الأرض ، وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن : إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق ، لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء ! فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز !
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها( رواسي )وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها - كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال - تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
" إن كل حدث يحدث في الأرض ، في سطحها أو فيما دون سطحها ، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها . فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . [ أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ] حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . و لو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام "
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد ، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة : ( أن تميد بكم )كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) . . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة ، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك هواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . . .
" إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر ، لها أعماق . ونحن - بني الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، نعيش في هذه الأعماق ، هانئين بالذي فيها .
" فمن الهواء نستمد أنفاسنا ، من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه ، من كربونه ، بل من أكسيد كربونه ، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين ، أي الأزوت ، فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى ، توجد فيه بمقادير قليلة هي - في غير ترتيب - الأرجون ، والهيليوم ، والنيون ، وغيرها . ثم الإدروجين ، وهذه تخلفت - على الأكثر - في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى ؛ .
والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا - والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون - كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو فى جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو ? إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعه فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله ، التي لا يعلم مقدارها إلا الله
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.