ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يطلع الناس فى كل زمان ومكان على دلائل وحدانيته وقدرته ، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه عنه ، فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق . . } .
والمراد بالآيات فى قوله { آيَاتِنَا } : الدلائل والبراهين الدالة على وحدانيته - سبحانه - وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم .
والآفاق : جمع أفق - كأعناق جمع عنق - وهو الناحية والجهة ، يقال : أفق فلان يأفق - كضرب يضرب - إذا سار فى آفاق الأرض وجهاتها المتعددة .
والمعنى : سنطلع الناس على دلائل وحدانيتنا وقدرتنا فى أقطارا لسموات والأرض ، من شمس وقمر ونجوم ، وليل ونهار ، ورياح وأمطار ، وزرع وثمار ، ورعد وبرق وصواعق ، وجبال وبحار .
سنطلعهم على مظاهر قدرتنا فى هذه الأشياء الخارجية التى يرونها بأعينهم ، كما سنطلعهم على آثار قدرتنا فى أنفسهم عن طريق ما أودعنا فيهم من حواس وقوى ، وعقل ، وروح ، وعن طريق ما يصيبهم من خير وشر ، ونعمة ونقمة .
ولقد صدق الله - تعالى - وعده ، ففى كل يوم بل فى كل ساعة ، يطلع الناس على أسرار جديدة فى هذا الكون الهائل ، وفى أنفسهم .
. وكلها تدل على وحدانيته - تعالى - وقدرته ، وعلى صحة دين الإِسلام الذى جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام .
وقوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } استئناف مسوق لتوبيخ الكافرين على عنادهم مع ظهور الأدلة على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه هو الحق المبين .
والهمزة للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والباء مزيدة للتأكيد ، وقوله { بربك } فاعل كفى .
والمعنى : ألم يغن هؤلاء الجاحدين عن الآيات الموعودة الدالة على صحة هذا الدين ، أن ربك - أيها الرسول الكريم - شهيد على كل شئ ، وعلى أنك صاقد فيما تبلغه عنه . . بلى إن فى شهادة ربك وعلمه بكل شئ ما يغنيك عن كل شئ سواه .
ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون . ويتجه إلى الكون العريض . يكشف عن بعض ما قدر فيه - وفي ذوات أنفسهم - من مقادير :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ? ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
إنه الإيقاع الأخير . وإنه لإيقاع كبير . . .
إنه وعد الله لعباده - بني الإنسان - أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء . وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق . هذا الدين . وهذا الكتاب . وهذا المنهج . وهذا القول الذي يقوله لهم . ومن اصدق من الله حديثاً ?
ولقد صدقهم الله وعده ؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم . وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد .
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين . فقد تفتحت لهم الآفاق . وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله .
لقد عرفوا أشياء كثيرة . لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير .
عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون . . إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس . وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين . وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم - وربما طبيعة كونهم ، إن صح ما عرفوه !
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه . إن صح أن هناك مادة . عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة . وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع . وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع . . في صور شتى : هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام !
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير . عرفوا أنه كرة أو كالكرة . وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس . وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره . وكشفوا عن شيء من باطنه . وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات . والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضاً !
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير ، وتصرف هذا الكون الكبير . ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس . ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه . ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم ، قد أخذت عن طريق العلم تثوب ، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق .
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون . فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير . عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله .
وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً . . إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم . لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه . ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء . .
ووعد الله ما يزال قائماً : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ . فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى . وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون ! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد . ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي . ولكن هذه الموجة تنحسر الآن . تنحسر - على الرغم من جميع الظواهر المخالفة - وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه ، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله . وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.