التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (29)

وقوله - سبحانه - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله . رد على مزاعم أهل الكتاب أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أفضل من الأمة الإسلامية .

قال الجمل ما ملخصه : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله - تعالى - { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ . . } قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابنا وكتابكم . ومن لم يؤمن منا بكتابكم فله أجر كأجركم ، فبأى شىء فضلتم علينا ؟ فأنزل الله هذه الآية .

و { لاَّ } زائدة ، واللام متعلقة بمحذوف ، هو معنى الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا وتؤمنوا برسوله ، يؤتكم الله من فضله كذا وكذا - وقد أعلمناكم بذلك - لكى يعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شىء من فضل الله .

أى : أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله . . . كالكفلين من رحمته وكمغفرة الذنوب - لأنهم لم يؤمنوا برسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يخلصوا العبادة له - عز وجل - . .

وقوله - سبحانه - { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } مؤكد لما قبله ، ومقرر له .

أى : ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على الظفر بشىء من فضل الله إلا إذا آمنوا بالله ورسله . وليعلموا - أيضا - أن الفضل والعطاء بيد الله - تعالى - وحده ، يمنحه لمن يشاء ويختار من عباده ، وهو - سبحانه - صاحب الفضل الواسع العظيم .

وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون المقصود من الآيتين تحريض المؤمنين من هذه الأمة على الثبات على تقوى الله - تعالى - واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فى كل ما جاء به ، وتبشيرهم بالعطاء الجزيل إذا ما فعلوا ذلك .

والرد على المتفاخرين من أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم ليس أحد أفضل منهم ، وأن الأجر ثابت لهم سواء آمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أم استمروا على كفرهم .

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، أنزل الله هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ . . . } فى حق هذه الأمة .

وهى كقوله - تعالى - : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } ومما يؤيد هذا القول - أى : أن هذه الآية فى حق هذه الأمة - ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لى من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعلت اليهود .

ثم قال : من يعمل لى من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعلت النصارى .

ثم قال : من يعمل لى من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ، قالوا لا : قال فإنما هو فضلى أوتيه من أشاء " .

ويرى بعض المفسرين أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، فيكون المعنى : يا من آمنتم بموسى وبعيسى وبمحمد - عليهم الصلاة والسلام - اتقوا الله وآمنوا برسوله - صلى الله عليه وسلم - واثبتوا على ذلك ، يؤتكم الله - تعالى - كفلين من رحمته .

وليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ، أنهم لن ينالوا شيئا مما ناله المؤمنون منهم .

ومن المفسرين الذين ساروا على هذا التفسير الإمام ابن جرير ، فقد قال - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية : يقول - تعالى ذكره - : يأيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، خافوا الله ، وآمنوا برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم .

. .

أى : يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى وبمحمد - عليهما الصلاة والسلام - .

ويبدو لنا أن الخطاب فى هذه الآية للمؤمنين من هذه الأمة ، على سبيل الحض والتبشير ، وأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله . . . } واضح فى ذلك ، وأن جعل الخطاب لمؤمنى أهل الكتاب لا دليل عليه .

ولذا قال بعض المحققين : هذه الآية الكريمة من سورة الحديد ، فى المؤمنين من هذه الأمة ، وأن سياقها واضح فى ذلك ، وأن من زعم من أهل العلم أنها فى أهل الكتاب فقد غلط ، وأن ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة ، أعظم مما وعد به مؤمنى أهل الكتاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (29)

16

( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله . وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) . . فقد كان أهل الكتاب يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) . . ( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . . فالله يدعو الذين آمنوا إلى استحقاق رحمته وجنته وهبته ومغفرته حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء ، غير مقصور على قوم ، ولا محجوز لطائفة ، ولا محدود ولا قليل : ( والله ذو الفضل العظيم ) . .

وهي دعوة فيها تحضيض واستجاشة واستشارة للسباق إلى الجنة والرحمة . تختم بها السورة ختاما يتناسق مع سياقها كله ، ومع الهتاف المكرر فيها لهذه القلوب كي تحقق إيمانها وتخشع لربها وتستجيب لتكاليف الإيمان في الأموال والأرواح . في تجرد وإخلاص .

ختام السورة:

وبعد فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية ، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير . وهي في بدئها وسياقها وختامها ؛ وفي إيقاعاتها وصورها وظلالها ؛ وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة ، وشوطا بعد شوط . . هي في هذا كله درس بديع لأصحاب هذه الدعوة ، يعلمهم كيف يخاطبون الناس ، وكيف يوقظون الفطرة ، وكيف يستحيون القلوب !

إنها درس رباني من صانع القلوب ، ومنزل القرآن ، وخالق كل شيء بقدر . وفي هذه المدرسة الإلهية يتخرج الدعاة المستجابون الموفقون . . .