التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ} (98)

ثم ساق - سبحانه - لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته . فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } .

أى : وهو - سبحانه - الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم - عليه السلام - قال - تعالى - { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } وفى هذه الجملة الكريمة تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه ، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم والتعاطف ، وفيها - أيضاً - دليل على عظيم قدرته - عز وجل - . والفاء فى قوله - تعالى - { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } للتفريع عن أنشأكم .

أى : أنشأكم من نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار فى الأرحام أو فى الأرض وموضع استيداع فى الأصلاب أو فى القبور .

وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس ، وقد زكاه الإمام الرازى فقال : ومما يدل على قوة هذا القول أن النطقة الواحدة لا تبقى فى صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع " .

وقيل المستقر حالة الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة ، وكذلك إن كان شقيا ، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا .

وقيل : المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها ، والمستودع الذى لم يخلق بعد وسيخلق .

والذى نراه أن الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين ، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما فى قوله - تعالى - { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } وكما فى قوله - تعالى - { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وقرىء { فَمُسْتَقِرٌّ } - بكسر القاف - أى : فمنكم مستقر فى الأرحام ومنكم مستودع .

وقوله { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أى : قد فصلنا الآيات الدالة على قدرتنا ووضحناها لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ويتدبرونه فينتفعون بذلك .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل " يعلمون " مع ذكر النجوم و { يَفْقَهُونَ } مع ذكر إنشاء بنى آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذى هو استعمال فطنته وتدقيقه نظره مطابقا له .

وقد علق صاحب الانتصاف على كلام الزمخشرى بما ملخصه : " جواب الزمخشرى صناعى ، والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة ، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين فى اللفظ ، لما فى ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسيناً للنظم واتساقا فى البلاغة ، ويحتمل وجهاً آخر فى تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية فى تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر فى إنشائهم من نفس واحدة ، وتقلباتهم فى أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها ، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أبشع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون فى أنفسهم ، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا . . وإذا قيل : فلان " لا يفقه شيئاً " كان أذم فى العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئاً وكأن معنى قولك لا يفقه شيئاً ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك " لا يعلم شيئاً " فغايته نفى حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ} (98)

95

( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون )

إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنة والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل ، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان ؛ وإذا شيات ولغات ؛ وإذا شعوب وقبائل ؛ وإذا النماذج التي لا تحصى ، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .

( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .

فالفقة هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة ، التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائما من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ " إنسانيتهم " وتجعلهم أكفاء للحياة " الإنسانية " !

ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجةإلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الأنات دائما لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها . .

ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرا أو أنثى ، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس ، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .

هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة ، فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا ، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار ، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى ؛ إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة ، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها " الإنساني " الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور " الإنساني " الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان !

وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون : ( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .

أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب " العلمية " الذين يسخرون من " الغيبية " . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين : " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " .