التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النبأ

مقدمة وتمهيد

1- سورة " النبأ " هي أول سورة في الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وتسمى –أيضا- بسورة " عم يتساءلون " وبسورة " عم " ، وبسورة " المعصرات " ، وبسورة " التساؤل " ، فهذه خمسة أسماء لهذه السورة ، سميت بها لورود هذه الألفاظ فيها .

2- وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي والمكي ، وإحدى وأربعون في غيرهما . وكان نزولها بعد سورة " المعارج " ، وقبل سورة " النازعات " .

3- وهذه السورة من أهم مقاصدها : توبيخ المشركين على خوضهم في القرآن الكريم بدون علم ، وتهديدهم بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، وإقامة الأدلة المتنوعة على وحدانية الله –تعالى- وعلى مظاهر قدرته ، وبيان ما أعده –سبحانه- للكافرين من عذاب ، وما أعده للمتقين من ثواب ، وإنذار للناس بوجوب تقديم العمل الصالح من قبل أن يأتي يوم القيامة ، الذي لا ينفع فيه الندم على ما فات .

4- ويبلغ عدد سور هذا الجزء الأخير من القرآن الكريم سبعا وثلاثين سورة ، كلها مكية ، سوى سورتي " البينة والنصر " وكلها تمتاز بقصرها ، على تفاوت في هذا القصر ، ومعظمها مشتمل على إقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله . وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى المقارنة بين حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار ، وعلى التذكير المتكرر بأهوال يوم القيامة ، وبأنه آت لا ريب فيه ، وعلى التحذير من الغفلة عن الاستعداد له ، وعلى الإفاضة في بيان نعم الله –تعالى- على الناس ، وعلى بيان ما حل بالمكذبين السابقين من دمار . .

كل ذلك بأسلوب بديع معجز ، تخشع له القلوب ، وتتأثر به النفوس ، وتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . .

لفظ " عم " مركب من كلمتين ، هما حرف الجر " عن " و " ما " التى هى اسم استفهام ، فأصل هذا اللفظ : " عن ما " فأدغمت النون فى الميم لأن الميم تشاركها فى الغنة وحذف الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام . والجار والمجرور متعلق بفعل " يتساءلون " .

والتساؤل : تفاعل من السؤال ، بمعنى أن يسأل بعض الناس بعضا عن أمر معين ، على سبيل معرفة وجه الحق فيه ، أو على سبيل التهكم .

والنبأ : الخبر مطلقا ، ويرى بعضهم أنه الخبر ذو الفائدة العظيمة .

والمعنى : عن أى شئ يتساءل هؤلاء المشركون ؟ وعن أى أمر يسأل بعضهم بعضا ؟ إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم ، والخبر الهام الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذى نطق به القرآن الكريم ، من أن البعث حق ، ومن أن هذا القرآن الكريم من عند الله - تعالى - ومن أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه .

وافتتح - سبحانه - الكلام بأسلوب الاستفهام ، لتشويق السامع إلى المستفهم عنه ، ولتهويل أمره ، وتعظيم شأنه .

والضمير فى قوله { يتساءلون } يعود إلى المشركون ، الذين كانوا يكثرون من التساؤل فيما بينهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عما جاء به من عند ربه ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن قال : لما بعث النبى صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون فيما بينهم - عن أمره وعما جاءهم به - فنزل قوله - تعالى - : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ . عَنِ النبإ العظيم . . } .

وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأنهم معرفون من السياق ، إذ هم - دون غيرهم - الذين كانوا يتساءلون فيما بينهم - على سبيل التهكم - عما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .

وقوله - تعالى - : { عَنِ النبإ العظيم } تهويل لشأن هذا الأمر الذى يتساءلون فيما بينهم عنه ، ووصف - سبحانه - النبأ بالعظم ، زيادة فى هذا التهويل والتفخيم من شأنه ، لكى تتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليهم أفهامهم .

فكأنه - سبحانه - يقول : عن أى شئ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا ؟ أتريدون أن تعرفوا ذلك على سبيل الحقيقة ؟ ما بين منكر له إنكارا تاما ، كما حكى - سبحانه - عنهم فى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } وما بين مترد فى شأنه ، كما حكى - سبحانه - عن بعضهم فى قوله : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } قال صاحب الكشاف قوله : { عم } أصله عما ، على أنه حرف جر ، دخل على ما الاستفهامية .

ومعنى هذا الاستفهام : تفخيم الشأن ، كأنه قال : عن أى شئ يتساءلون . ونحوه ما فى قولك : زيد ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ، كأنه شئ خفى عليك جنسه . فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ، كما تقول : ما الغول وما العنقاء . . ؟

و { يَتَسَآءَلُونَ } يسأل بعضهم بعضا . . والضمير لأهل مكة ، فقد كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث .

وقوله : { عَنِ النبإ العظيم } بيان للشأن المفخم .

فإن قلت : قد زعمت أن الضمير فى { يَتَسَآءَلُونَ } للكفار ، فما تصنع بقوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ قلت : كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث ، ومنهم من يشك .

وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعا ، وكانوا جميعا يسألون عنه ، أما المسلم فليزداد خشية واستعدادا ، وأما الكافر فليزداد استهزاء . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النبأ

هذا الجزء كله - ومنه هذه السورة - ذو طابع غالب . . سوره مكية فيما عدا سورتي " البينة " و " النصر " وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر . والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة - على وجه التقريب - في موضوعها واتجاهها ، وإيقاعها ، وصورها وظلالها ، وأسلوبها العام .

إنها طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية . وصيحات . صيحات بنوم غارقين في النوم ! نومهم ثقيل ! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار ! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء ! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد : اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . إن هنالك إلها . وإن هنالك تدبيرا . وإن هنالك تقديرا . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حسابا . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذابا شديدا . ونعيما كبيرا . . اصحوا . استيقظوا . انظروا تلفتوا تفكروا تدبروا وهكذا مرة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا . . وهم كأنما يفتحون أعينهم ينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه ! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا ؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد ؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب . . وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا . . ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء . . ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .

هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن . وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب . وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس . وعلى أحداث معينة في يوم الفصل . وأرى تكرارها مع تنوعها . هذا التكرار الموحي بأمر وقصد !

وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه . . . ) . . ( فلينظر الإنسان مم خلق ? . . . ) . . ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? وإلى السماء كيف رفعت ? وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ? ) .

وهو يقرأ : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ? رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعا لكم ولأنعامكم ) . . ( ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ? ) . . . . ( فلينظر الإنسان الي طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم ) . .

وهو يقرأ( يا أيها الإنسان . ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ? ) . .

( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . . ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون . فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ? ) . .

وهو يقرأ : إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت ? ( وإذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس ما أحضرت ) . . ( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت ) . . ( إذا السماء انشقت . وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت . . . ) ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان مالها . . يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ) . .

وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها : ( فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس ) . . ( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق ) . . ( والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر ) . . ( والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها ) . . ( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى ) . . ( والضحى . والليل إذا سجى ) . .

الخ . . الخ . .

وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان . وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح . وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية . ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها . . واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير . . وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله . ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم :

هذه السورة - سورة النبأ - كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد . ومثلها سورة " النازعات " وسورة " عبس " تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة . . وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة : ( يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه ، وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ) . وسورة " التكوير " وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم ، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول . وسورة " الانفطار " كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . . )الخ " وسورة " الانشقاق " وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة " البروج " وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .

وسورة " الطارق " . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : ( إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ) . . وسورة " الأعلى " وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة " الغاشية " . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون . وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتواسيه وتوجهه إلى الإستعاذه بربه من كل شر ، كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .

وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ؛ والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس )وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : ( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق ) . أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري : ( والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر ) . ( والضحى . والليل إذا سجى ) . وفي خطابه الموحي للقلب البشري : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ? الذي خلقك فسواك فعدلك . . )وفي وصف الجنة : ( وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية . . . )ووصف النار : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ما هيه ? نار حامية ! . . والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .

والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .

وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة ؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير .

وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة ؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : ( عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون ! ) . .

ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ? ) .

ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون ! ليقول لهم ما هو ? وكيف يكون : ( إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا ) . .

ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : ( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا ، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا ، وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .

ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا : ( إن للمتقين مفازا : حدائق وأعنابا ، وكواعب أترابا ، وكأسا دهاقا ، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا ) .

وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) . .

ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم !

( عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون ) . . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين ، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل ، ولا يكادون يتصورون وقوعه ، وهو أولى شيء بأن يكون !

( عم يتساءلون ? ) . . وعن أي شيء يتحدثون ? ثم يجيب . فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم ، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته :