وقوله - تعالى - : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا . . . } بدل من قوله : { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } . أو مفعولا به بتقدير اذكر .
و { تَبَرَّأَ } من التبرؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد ، ومنه برئت من الدين أي : تخلصت منه ، وبرأ المريض من مرضه ، أي : تخلص من مرضه .
والمراد بالذين اتبعوا : أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله .
والمراد بالذين اتبعوا : أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخوضع بدون تدبر أو تعقل .
وجملة { وَرَأَوُاْ العذاب } حال من الأتباع والمتبوعين ، والضمير يعود على الفريقين : أي : تبرؤا جميعاً من بعض في حال رؤيتهم للعذاب .
وجملة { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } معطوفة على تبرأ ، أورأوا .
والباء في { بِهِمُ } للسبيبة أي : وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة ، وقيل للملابسة أي : تقطعت الأسباب ملتبسة بهم فخابت آمالهم وسقطوا صرعى .
و { الأسباب } جمع سبب ، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه ، ثم سمى به كل ما يتوصل به إلى غيره ، عيناً كان أو معنى . فيقال للطريق سبب ، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تربده ، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك ، والمراد بالأسباب هنا : الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا ، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين . . . إلخ .
والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة ، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم ، والاتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعاً للعذاب وأسبابه ومقدماته وما أعدلهم من شقاء وآلام ، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا ، وصار كل فريق منهم يلعن الآخر ويتبرؤ منه .
قال بعض العلماء : وفي قوله : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } استعارة تمثيلية إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتني الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب - أي الحبل - عند ارتقائه فسقط هالكا ، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعاً حينئذ أن لانجاة لهم ، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة . وهي تمثيلية بديعة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منهما يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبهة بها وهي :
تشبيه المشرك في عبادته الأصنام بالمرتقى بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل إليها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك . . . "
{ إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا ورَأوُا العَذَاب ، إذ تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا فقال بعضهم بما :
حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا وهم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك ، مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتباع الضعفاء ، ورَأَوُا العَذَابَ .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال : تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال : تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا أما الذين اتبعوا فهم الشياطين تبرّءوا من الإنس .
قال أبو جعفر : والصواب من القول عندي في ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن المتّبعينَ على الشرك بالله يتبرّءون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله ولم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض ، بل عمّ جميعهم ، فدخل في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتبعونه على الضلال في الدنيا إذا عاينوا عذاب الله في الاَخرة .
وأما دلالة الآية فيمن عنى بقوله : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِين اتّبَعُوا فإنها إنما تدلّ على أن الأنداد الذين اتخذهم من دون الله مَن وصف تعالى ذكره صفته بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا هم الذين يتبرّءون من أتباعهم . وإذا كانت الآية على ذلك دالة صحّ التأويل الذي تأوّله السدي في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُون اللّهِ أنْدَادا ، أن الأنداد في هذا الموضع إنما أريد بها الأنداد من الرجال الذين يطيعونهم فيما أمروهم به من أمر ، ويعصون الله في طاعتهم إياهم ، كما يطيع الله المؤمنون ويعصون غيره ، وفسد تأويل قول من قال : إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا إنهم الشياطين تبرّءوا من أوليائهم من الإنس لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن متخذي الأنداد .
القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ .
يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا ، وإذ تقطعت بهم الأسباب .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب . فقال بعضهم بما :
حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، وثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الوصال الذي كان بينهم في الدنيا .
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : تواصُلهم في الدنيا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا ، قالا : حدثنا سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد بمثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : المودّة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، قال : أخبرني قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : المودّة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ أسباب الندامة يوم القيامة ، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون بها ، فصارت عليهم عداوة يوم القيامة ( ثمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا ) ويتبرأ بعضكم من بعض ، وقال الله تعالى ذكره : ( الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِين ) فصارت كل خلة عداوة على أهلها ، إلا خلة المتقين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ يقول : الأسباب : الندامة .
وقال بعضهم : بل معنى الأسباب : المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ يقول : تقطعت بهم المنازل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الأسباب : المنازل .
وقال آخرون : الأسباب : الأرحام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : الأرحام .
وقال آخرون : الأسباب : الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أمّا ( وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ ) فالأعمال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ قال : أسباب أعمالهم ، فأهل التقوى أعطوا أسباب أعمالهم وثيقة فيأخذون بها فينجون ، والاَخرون أعطوا أسباب أعمالهم الخبيثة فتقطع بهم فيذهبون في النار . قال : والأسباب : الشيء يتعلق به . قال : والسبب الحبل ، والأسباب جمع سبب ، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طلبته وحاجته ، فيقال للحبل سبب لأنه يتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به ، ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه ، وللمصاهرة سبب لأنها سبب للحرمة ، وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة ، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها .
فإذا كان ذلك كذلك فالصواب من القول في تأويل قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار يتبرأ عند معاينتهم عذاب الله المتبوع من التابع ، وتتقطع بهم الأسباب . وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بعضهم يلعن بعضا ، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه : ( ما أنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) وأخبر تعالى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا ، فقال تعالى ذكره : ( وَقِفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون ) وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه ، وإن كان نسيبه لله وليا ، فقال تعالى ذكره في ذلك : ومَا كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَتَبّرأ مِنْهُ ، وأخبر تعالى ذكره أن أعمالهم تصير عليهم حسرات . وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب ، فقطع الله منافعها في الاَخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه ، فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم على ربهم ولا عبادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم ، ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام الله منهم ، ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت عليهم حسرات ، فكل أسباب الكفار منقطعة ، فلا معنى أبلغ في تأويل قوله : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ من صفة الله ، وذلك ما بينا من جميع أسبابهم دون بعضها على ما قلنا في ذلك . ومن ادّعى أن المعنى بذلك خاص من الأسباب سئل عن البيان على دعواه من أصل لا منازع فيه ، وعورض بقول مخالفه فيه ، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله .
إذ ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف { إذ يرون العذاب } [ البقرة : 165 ] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرىء بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد .
وجيء بالفعل بعد ( إذ ) هنا ماضياً مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيهاً على تحقق وقوعه فإن درجتَ على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفاً للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحاً للتبعية ، وإن درجت على أنها ترد ظرفاً للمستقبل وهو الأصح ونسبه في « التسهيل » إلى بعض النحاة ، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [ آل عمران : 152 ] على أن يكون { إذ تحسونهم } هو الموعود به وقال : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } [ غافر : 71 ] فيكون المجاز في فعل { تَبرَّأ } خاصة .
والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قُرْبه أن يكون مضراً ولذلك يقال تبارآ إذا أبعد كلٌ الآخر من تبعةٍ محققة أو متوقعة .
و { الذين اتبعوا } بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لُحَيَ ، فقد أشعر قوله { اتُّبِعُوا } أنهم كانوا يَدْعُون إلى متابعتهم ، وأيدَّ ذلك قوله بعده { فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا } أي نجازيهم على إِخلافهم .
ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم ، وصَرْفُهم عن الالتحاق بهم حين هَرَعُوا إليهم .
وجملة { ورأوا العذاب } حاليَّة أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب ، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أُعِد لمن أضلَّ الناسَ فجعلوا يتباعدون من أَتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين ، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازاً في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله : { يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] فموقع الحال هنا حسن جداً وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاءً بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب ، ولا تكون معطوفة على جملة { تبرأ } لأن معناها حينئذٍ يصير إعادةً لمعنى جملة : { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } فتصير مجردَ تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات .
وضمير { رَأوا } ضميرٌ مبهم عائد إلى فريقي الذين اتُّبعوا والذين اتَّبعوا .
وجملة { وتقطعت بهم الأسباب } معطوفة على جملة { تبرأ } أي وإذْ تقطعت بهم الأسباب ، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين .
والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطَّعهُ بالتشديد مضاعف قَطع بالتخفيف .
والأسباب جمع سبب وهو الحَبْل الذي يُمد ليُرتقى عليه في النخلة أو السطح ، وقوله { وتقطعت بهم الأسباب } تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدةَ حياتهم وقد جاءَ إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقي إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكاً ، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذٍ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة ، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبْعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشَّبهاً بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي : تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقي بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك . وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة ، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يُعد مثالاً في الحُسن
كأنَّ مُثار النَّقْع فوقَ رؤسِنا *** وأسيافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ
فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة .
فالباء في ( بهم ) للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا ، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سبباً آخر ينزل فيه ، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابُهم أو نحوه ، فمن قال إن الباء بمعنى عَن أو للسببية أو التعدية فقد بَعد عن البلاغة ، وبهذه الباء تقوَّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرىء القيس :
تقطَّعَ أسبابُ اللُّبانة والهَوى *** عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَمَاةَ وشَيْزَرَا . . .