ثم شرع - سبحانه - فى بيان شأن الظهار فى ذاته ، وفى بيان حكمه المترتب عليه شرعا فقال : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } .
وقوله : { يُظَاهِرُونَ } من الظهار ، وهو لغة مصدر ظاهر ، وهو مفاعلة من الظهر .
قال الآلوسى : والظهار يراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض ، فيقال : ظاهر زيد عمراً ، أي : قابل ظهره بظهره حقيقة ، وكذا إذا غايظه . . وظاهره إذا ناصره باعتبار أنه يقال : قوى ظهره إذا نصره " .
والمراد به هنا : أن يقول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، قاصدا بذلك تحريم زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه .
وكان هذا القول من الرجل لامرأته يؤدي إلى طلاقها منه ، بحيث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وقيل : إلى طلاقها منه طلاقاً مؤبدا لا تحل له بعده .
وقيل : إن هذا القول لم يكن طلاقا من كل وجه ، بل كانت الزوجة تبقى بعده معلقة ، فلا هي مطلقة ، ولا هي غير مطلقة .
و " من " في قوله { مِّن نِّسَآئِهِمْ } بيانية ، لإفادة أن هذا تشريع عام ، وليس خاصا بخولة بنت ثعلبة ، التي نزلت فى شأنها هذه الآيات .
وجملة : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } قائمة مقام الخبر ، ودالة عليه .
والمعنى : الذين يظاهرون منكم - أيها المؤمنون - من نسائهم بأن يقولوا لهن : أنتن علينا كظهر أمهاتنا ، مخطئون فيما يقولون ، فإن زوجاتهم لسن بأمهاتهم .
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } أي : ليس أمهاتهم على سبيل الحقيقة والواقع إلا النساء اللائي ولدنهم وأرضعتهم ، وقمن برعايتهم فى مراحل الطفولة والصبا والشباب .
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } .
أي : وإن هؤلاء الرجال الذين يقولون لأزواجهم : أنتن علينا كظهور أمهاتنا فى الحرمة ، ليتفوهون بما هو منكر من القول ، فى حكم الشرع وفى حكم العقل ، وفى حكم الطبع . وفضلا عن كل ذلك فهو قول كاذب وباطل إذ لم يحرم الله - تعالى - الزوجة على زوجها ، كما حرم عليه أمه . فعلاقة الأزواج بأمهاتهم ، تختلف اختلافا تاما عن علاقتهم بزوجاتهم .
وإذاً فالمقصود بهذه الجملة الكريمة : التوبيخ على هذا القول ، وهو قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، وذم من ينطق به ، لأنه يعرض مقام الأمهات - وهو مقام في أسمى درجات الاحترام والتبجيل - - إلى تخيلات قبيحة تصاحب النطق بهذا الكلام .
وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترهيب بالترغيب ، حتى لا تيأس النفوس من رحمة الله ، ختمت الآية الكريمة بما يدل على فضله - تعالى - .
فقال : { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي : وإن الله - تعالى - لكثير العفو والمغفرة ، لمن تاب إليه - سبحانه - وأناب وأقلع عن تلك الأقوال والأفعال التى يبغضها - سبحانه - .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : الذين يحرّمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ، فيقولون لهنّ : أنتن علينا كظهور أمهاتنا ، وذلك كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية . كذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كان الظهار طلاقا في الجاهلية ، الذي إذا تكلم به أحدهم لم يرجع في امرأته أبدا ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ما أنزل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى نافع ، وعامة قرّاء الكوفة خلا عاصم : «يَظّاهَرُونَ » بفتح الياء وتشديد الظاء وإثبات الألف ، وكذلك قرأوا الأخرى بمعنى يتظاهرون ، ثم أدغمت التاء في الظاء فصارتا ظاء مشدّدة . وذكر أنها في قراءة أُبي : «يَتَظاهَرُونَ » وذلك تصحيح لهذه القراءة وتقوية لها وقرأ ذلك نافع وأبو عمرو وكذلك بفتح الياء وتشديد الظاء ، غير أنهما قرآه بغير ألف : «يَظّهّرونَ » . وقرأ ذلك عاصم : يُظاهِرُونَ بتخفيف الظاء وضم الياء وإثبات الألف .
والصواب من القول في ذلك عندي أن كلّ هذه القراءات متقاربات المعاني . وأما «يَظّاهَرُونَ » فهو من تظاهر ، فهو يتظاهر . وأما «يَظّهّرُونَ » فهو من تظهّر فهو يتظهّر ، ثم أدغمت التاء في الظاء فقيل : يظّهر . وأما يُظاهِرُونَ فهو من ظاهر يظاهر ، فبأية هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء فمصيب .
وقوله : ما هُنّ أمّهاتِهِمْ يقول تعالى ذكره : ما نساؤهم اللائي يُظاهرن منهنّ بأمهاتهم ، فيقولوا لهنّ : أنتن علينا كظهر أمهاتنا ، بل هنّ لهم حلال .
وقوله : إنْ أُمّهاتُهُمْ إلاّ اللاّئي وَلَدْنَهُمْ لا اللائي قالوا لهنّ ذلك .
وقوله : وإنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرا مِنَ القَوْلِ وَزُورا يقول جلّ ثناؤه : وإن الرجال ليقولون منكرا من القول الذي لا تُعرف صحته وزورا : يعني كذبا ، كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مُنْكَرا مِنْ القَوْلِ وَزُورا قال : الزور : الكذب وَإنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ يقول جلّ ثناؤه : إن الله لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا ، غفور لهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يظهرون » ، وقرأ أبي بن كعب بخلاف عنه : «يتظهرون » . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : «يظاهرون » . وقرأ أبي بن كعب أيضاً : «يتظاهرون » . وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة : «يُظاهرون » بضم الياء من قولك فاعل ، وهذه مستعملة جداً وقولهم الظهار دليل عليها ، والمراد بهذا كله قول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، يريد في التحريم كأنها إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان ، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ، فرد الله بهذه الآية فعلهم ، وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة ، وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم .
وقرأ جمهور الناس : «أمهاتِهم » بنصب الأمهات ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : «أمهاتُهم » بالرفع وهذا على اللغتين في { ما } لغة الحجاز ولغة تميم ، وقرأ ابن مسعود «ما هنّ بأمهاتهم » بزيادة باء الجر ، وجعل الله تعالى القول بالظهار { منكراً } { وزوراً } ، فهو محرم ، لكنه ، إذا وقع لزم ، هكذا قال فيه أهل العلم ، لكن تحريمه تحريم المكروهات جداً ، وقد رجى الله تعالى بعده بأنه { لعفو غفور } مع الكفارة .
قال: مالك: ليس على النساء تظاهر، إنما قال الله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} ولم يقل: واللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين يحرّمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم، فيقولون لهنّ: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وذلك كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية...
وقوله:"ما هُنّ أمّهاتِهِمْ "يقول تعالى ذكره: ما نساؤهم اللائي يُظاهرن منهنّ بأمهاتهم، فيقولوا لهنّ: أنتن علينا كظهر أمهاتنا، بل هنّ لهم حلال.
وقوله: "إنْ أُمّهاتُهُمْ إلاّ اللاّئي وَلَدْنَهُمْ" لا اللائي قالوا لهنّ ذلك.
وقوله: "وإنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرا مِنَ القَوْلِ وَزُورا" يقول جلّ ثناؤه: وإن الرجال ليقولون منكرا من القول الذي لا تُعرف صحته "وزورا": يعني كذبا...
"وَإنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ" يقول جلّ ثناؤه: إن الله لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا، غفور لهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات، فإن الأم حرام الاستمتاع بها على التأبيد، لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها ويسافر بها، ويباح [له] النظر والمس والإركاب والإنزال والخلوة بها والمقام معها. والمرأة متى حرمت بالطلاق بالثلاث أو بالبينونة لا يثبت شيء من هذه الحقوق...
وإنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم اللاتي ولدنهم، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله، ولم أشرعه؟ فرد صنيعهم بهذا. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل الله تعالى ذلك، أي {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات وتشبيههم إياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق والحرمة، وإن كان كلامهم وقولهم من حيث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الذين يظاهرون مِنكُمْ} في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم {مَّا هُنَّ أمهاتهم}... والمعنى: أن من يقول لامرأته أنت عليّ كظهر أمي: ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم، وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ، فالمرضعات أمّهات؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرّم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن بأمّهات على الحقيقة. ولا بداخلات في حكم الأمهات، فكان قول المظاهر: منكراً من القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا: إنه كبيرة لأن فيه إقداماً على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك، واحتمال التشبيه لذلك وغيره، ومن ثم سماه عز وجل {مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو علاج للقضية من أساسها. إن هذا الظهار قائم على غير أصل. فالزوجة ليست أما حتى تكون محرمة كالأم. فالأم هي التي ولدت. ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أما بكلمة تقال. إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع. وكلمة مزورة ينكرها الحق. والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع، في وضوح وتحديد، فلا تختلط ذلك الاختلاط، ولا تضطرب هذا الاضطراب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ما هن أمهاتهم} خبر عن {الذين}، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: أنت عليّ كظهر أمّي، أي لا تصير الزوج بذلك أمًّا لقائل تلك المقالة. وهذا تمهيد لإِبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومةَ حقيقةٌ ثابتة لا تُصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء...
{إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي فليست الزوجاتُ المظاهَرُ منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنتِ عليّ كظهر أمي، فلا يحرمْن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثِّر إيجاده. وتأكيد الخبر {بإنّ} واللامِ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنُزلوا منزلة من يتردد في كونه منكراً أو زوراً، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعاً في شَرع قديم ولا في شريعة الإِسلام، وأنه شيء وضعَه أهل الجاهلية كما نبه عليه عَدُّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقد تقدم في سورة [الأحزاب: 4].
وبعد هذا التوبيخ عَطف عليه جملة {وإن الله لعفو} كناية عن عدم مواخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرَى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحُرمة
السياق القرآني هنا يوجّه الحديث لهؤلاء الذين يقعون في هذا القول المحرّم وهذا التشبيه الآثم، يقول لهم: احذروا هذا القول وفرّقوا بين الأم والزوجة، الأم هي التي ولدت، فالزوجة لا تكون أمّا أبداً ولا يليق أنْ نُسميها أماً.
فضعوا الأمور في نصابها، الأم أم والزوجة زوجة، ولكلّ منهما حدود.
ثم يبيّن لهم أن هذا القول (أنت عليَّ كظهر أمي) قول منكر {وإنّهُم لَيَقُولُون مُنكراً منَ القوْل وزوراً..} المنكر هو القول الذي ينكره العقل وينكره الذوق السليم، والزور هو الكذب والباطل، فمن المنكر ومن الكذب أنْ تشبه الزوجة بالأم أو الأم بالزوجة، يريد سبحانه أنْ يلغي هذا القول من ألسنة المسلمين، كما ألغى عملية التبني في قصة سيدنا زيد بن حارثة التي تعرفونها.
وتختتم الآية بقوله تعالى: {وإنَّ الله لعَفُو غَفُورٌ} أي: لما سلف منكم وما سبق من تجاوزاتكم.