التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} (14)

ثم حكى - سبحانه - جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } .

وأصل الربط : الشد ، يقال ، ربطت الدابة ، أى : شددتها برباط ، والمراد به هنا : ما غرسه الله فى قلوبهم من قوة ، وثبات على الحق ، وصبر على فراق أهليهم ، ومنه قولهم : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب .

والمراد بقيامهم : عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل ، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة .

ويصح أن يكون المراد بقيامهم : وقوفهم فى وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة ، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم ، وإعلانهم دين التوحيد ، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { إذ قاموا } يحتمل ثلاثة معان . أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا ما دعاهم إليه .

والمعنى الثانى فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد ، وتعاهدوا على عبادة الله وحده .

والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد .

وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذى اهتدت إليه ، معتزة بالإِيمان الذى أشربته ، مستبشرة بالإِخاء الذى جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :

" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " .

ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن استقر الإِيمان فى نفوسهم فقال : { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها . . } .

أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله - عز وجل - حين قاموا فى وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا - سبحانه - هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شئ ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر .

ونفوا عبادتهم لغيره - سبحانه - بحرف - " لن " للإِشعار بتصميمهم على ذلك فى كل زمان وفى كل مكان ، إذ النفى بلن أبلغ من النفى بغيرها .

قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى - وهى : ربنا رب السموات والأرض - إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية - لن ندعو من دونه إلها - إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } وحكى - سبحانه - عنهم أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله - تعالى - .

والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد فى كل شئ ، ومنه : أشط فلان فى السَّومْ إذا جاوز الحد ، وأشط فى الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفى الكلام قسم مقدر ، واللام فى " لقد " واقعة فى جوابه ، و " إذا " حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر .

أى : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دون إلها . ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر ، والله لنكونن فى هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا ، أى : بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب .

والأية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية ، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله - تعالى - قلبه ، وقواه على تحمل الشدائد ، كما تدل على أن من أشرك مع الله - تعالى - إلها آخر ، يكون بسبب هذا الإِشراك ، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} (14)

وقوله : وَرَبَطْنا على قُلُوبِهمْ يقول عزّ ذكره : وألهمناهم الصبر ، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة وَرَبَطْنا على قُلُوبِهمْ يقول : بالإيمان .

وقوله : إذْ قامُوا فقالُوا رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس ، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته : ربّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : قالوا ربنا ملك السموات والأرض وما فيهما من شيء ، وآلهتك مربوبة ، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب لَنْ نَدْعُوَ منْ دُونِه إلَها يقول : لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها ، لأنه لا إله غيره ، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه لَقَدْ قُلْنا إذا شَططا يقول جلّ ثناؤه : لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض ، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها ، شططا من القول : يعني غاليا من الكذب ، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ : كما قال الشاعر :

ألا يا لَقَوْمي قَدْ أشْطَتْ عَوَاذِلي *** ويزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَقّيَ باطلي

يقال منه : قد أشط فلان في السوم إذا جاوز القدر وارتفع ، يشطّ إشطاطا وشططا . فأما من البعد فإنما يقال : شطّ منزل فلان يشطّ شطوطا ومن الطول : شطت الجارية تشطّ شطاطا وشطاطة : إذا طالت . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله شَطَطا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا يقول كذبا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال : لقد قلنا إذن خطأ ، قال : الشطط : الخطأ من القول .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} (14)

وقوله { وربطنا على قلوبهم } عبارة عن شدة عزم وقوة صبر أعطاها الله لهم ، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال ، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ، ومنه يقال : فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها ، ومنه الربط على قلب أم موسى ، وقوله { إذ قاموا فقالوا } يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر ، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخالفوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، والمعنى الثاني أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس ، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد ، وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول{[7758]} ، وقرا الأعمش «إذ قاموا قياماً فقالوا » ، وقولهم : { لقد قلنا إذاً شططاً } أي لو دعونا من دون ربنا إلهاً ، والشطط الجور ، وتعدي الحد والغلو بحسب الأمر ، ومنه اشتط الرجل في السوم إذا طلب في سلعته فوق قيمتها ، ومنه شطوط النوى والبعد ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]

ألا يالقومي قد اشتط عواذلي . . . ويزعمن أن أودى بحقي باطلي{[7759]}


[7758]:نقل القرطبي قول ابن عطية هذا، ثم علق عليه بقوله: "وهذا تعلق غير صحيح، هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم، خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء، أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام؟ وخاصة في هذا الزمان عند الأصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات، بينهما والله ما بين الأرض والسماء، ثم هذا حرام عند جماعة العلماء".
[7759]:البيت للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت الأنصاري، وهو في اللسان (شطط). قال: "وشاهد أشط بمعنى أبعد قول الأحوص: ألا يا لقومي . . . البيت". وهو أيضا من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن)، ذكر الآية، وذكر البيت وبعده بيتا آخر هو: ويلحينني في اللهو ألا أحبـــــه وللهو داع دائب غير غافل وللأحوص حديث في كتب الأدب يتناول نفيه إلى قرية باليمن لمجونه وفسقه، وأن بعض الناس كلم الحليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ليعيده فرفض مستشهدا بكثير من شعره في المجون، مع أنه من ذرية الصحابي الجليل عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه "حمي الدبر"، أي الذي حمته النحل من أن يمثل الكفار بجثته بعد قتله.