ثم فصل - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } .
و { إِن } هنا هى النافية . ويدعون من الدعاء وهو هنا بمعنى العبادة لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه .
والمراد بالإِناث : الأصنام التى كانوا يعبدونها من دون الله .
أى : أن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما ، أو ما ينادون من دون الله لقضاء حاوئجهم إلا أوثاناً لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا .
وعبر عن الأصنام بالإِناث لأن المشركين سموا أكثر هذه الأصنام بأسماء الإِناث ، كاللات والعزى ومناة .
قال الحسن : كان لكل حى من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بنى فلان وكانوا يزينونه بالحلى كالنساء .
وقيل : المراد بالإِناث هنا الملائكة ، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها : بنات الله . قال - تعالى - { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } وقيل : المراد بها هنا : الجمادات التى لا حياة فيها ومع ذلك يعبدونها .
قال أبو حيان : قال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة . فبكتهم الله أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه . وعلى هذا نبه إبراهيم - عليه السلام - أباه بقوله : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وقد رجح ابن جرير القول الأول فقال : وأولى التأويلات التى ذكرت بتأويل ذلك تأويل من قال : عنى بذلك الآلهة التى كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ، ويسمونها بالإِناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن الأظهر من معانى الإِناث فى كلام العرب ، ما عرف بالتأنيث دون غيره فإذا كان ذلك كذلك فالواجب توجيه تأويله إلا الأشهر من معانيه . فكأنه - تعالى - يقول : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه حجةعليهم فى ضلالهم وكفرهم أنهم يعبدون إناثا . والإِناث من كل شئ أخسه . فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته وبمتنعون من إخلاص العبودية للذى ملك كل شئ وبيده الخلق والأمر .
وقوله { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } بيان لما دفعهم إلى الوقوع فى ذلك الضلال الذى انغمسوا فيه .
ومريداً . أى عاتيا متمردا بالغا الغاية فى الشرور والفساد .
قال الراغب : والمراد والمريد من شياطين الجن والإِنس المتعرى من الخيرات . من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق . ومنه قيل رملة مرداء أى : لم تنبت شيئا . ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر .
فأصل مادة مرد للملاسة والتجرد . ومنه قوله - تعالى - { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أى أملس . ووصف الشيطان بالتمرد لتجرده للشر .
وعدم علوق شئ من الخير به . أو لظهور شره ظهور عيدان الشجرة المرداء .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما سموها بأسماء الإِناث ، وما يطيعون فى عبادتها إلا شيطانا عاتيا متجردا من كل خير ، ومتعريا من كل فضيلة . فهذا الشيطان الشرير دعاهم لعبادة غير الله فانقادوا له انقيادا تاما . وخضعوا له خضوعا لا مكان معه لتعقل أو تدبر .
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا اللات والعزّى ومناة ، فسماهنّ الله إناثا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : اللات والعزّى ومناة ، كلها مؤنث .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك بنحوه ، إلا أنه قال : كلهنّ مؤنث .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } يقول : يسمونهم إناثا : لات ، ومناة ، وعُزّى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : آلهتهم : اللات ، والعُزّى ، ويِساف ، ونائلة ، هم إناث يدعونهم من دون الله . وقرأ : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } .
وقال آُخرون : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } يقول : مَيْتا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } : أي إلا مَيْتا لا روح فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : والإناث : كل شيء ميت ليس فيه روح خشبة يابسة ، أو حجر يابس ، قال الله تعالى : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } . . . إلى قوله : { فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } .
وقال آخرون : عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } قال : الملائكة يزعمون أنهم بنات الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا ، فأنزل الله ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم يسمونها أنثى بني فلان ، فأنزل الله : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحِدّاني ، قال : سمعت الحسن يقول : كان لكل حيّ من العرب ، فذكر نحوه .
وقال آخرون : الإناث في هذا الموضع : الأوثان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهاد في قوله : { إناثا } قال : أوثانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كان في مصحف عائشة : «إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا » .
قال أبو جعفر : رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «أن يدعون من دونه إلا أُثُنا » ، بمعنى جمع وثن ، فكأنه جمع وَثَنَا وُثُنا ، ثم قلب الواو همزة مضمومة ، كما قيل : ما أحسن هذه الأجوه ، بمعنى الوجوه ، وكما قيل : { وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ } بمعنى : وُقّتت . وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : «إن يدعون من دونه إلا أُنُثا » ، كأنه أراد جمع الإناث ، فجمعها أُنُثا ، كما تُجمع الثمار ثُمُرا . والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها قراءة من قرأ : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا } بمعنى جمع أنثى ، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين ، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك .
وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت ، تأويل من قال : عنى بذلك الاَلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ، ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزّى ونائلة ومناة ، وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره . فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه ، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الاَية : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا ، إن يدعون من دونه إلا إناثا ، يقول : ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه ، إلاّ إناثا ، يعني : إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزّى وما أشبه ذلك . يقول جلّ ثناؤه : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد ، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا . والإناث من كلّ شيء أخّسه¹ فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } : وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا ، يعني متمرّدا على الله في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا } قال : تمرّد على معاصي الله .
{ إن يدعون من دونه إلا إناثا } يعني اللات والعزى ومناة ونحوها ، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال : وما ذكر فإن يسمن فأنثى *** شديد الأزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة ، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم . وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى ، وهو جمع أنثى كرباب وربى ، وقرئ " أنثى " على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ، ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة . { وإن يدعون } وإن يعبدون بعبادتها . { إلا شيطانا مريدا } لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكأن طاعته في ذلك عبادة له ، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير . وأصل التركيب للملابسة . ومنه { صرح ممرد } وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها .
كان قوله : { إن يدعون } بياناً لقوله : { فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } [ النساء : 116 ] ، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث ، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع . وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادراً من العرب ، وقد علم الناس حال المرأة بينهم ، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها . فالحصر في قوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم ، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي : اللاّت ، والعُزّى ، ومَنَاة ، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد . وكانت العزّى لقريش ، وكانت مناة للأوس والخزرج ، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين : مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام : ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام .
ومعنى { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان ، والمراد جنس الشيطان ، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام . والمَريد : العاصي والخارج عن المَلِك ، وفي المثل « تمرّد مارد وعزّ الأبلق » اسما حصنين للسموأل ، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مردُ بضم الراء إذا عتا في العصيان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن يدعون من دونه إلا إناثا}: أوثانا، يعني أمواتا: اللات والعزى، وهي الأوثان لا تحرك ولا تضر ولا تنفع، فهي ميتة، {وإن يدعون}: وما يعبدون من دونه، {إلا شيطانا}: يعني إبليس، زين لهم إبليس طاعته في عبادة الأوثان {مريدا}: عاتيا تمرد على ربه عز وجل في المعصية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزّى ومناة، فسماهنّ الله إناثا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. وقال آُخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه خشبة يابسة، أو حجر يابس.
وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا، فأنزل الله ذلك كذلك.
وقال آخرون: الإناث في هذا الموضع: الأوثان.
وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله، ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزّى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن يدعون من دونه إلا إناثا، يقول: ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه، إلاّ إناثا، يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزّى وما أشبه ذلك. يقول جلّ ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا. والإناث من كلّ شيء أخّسه¹ فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.
{وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا}: وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا، يعني متمرّدا على الله في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
روي في حرف عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ: إن تدعون من دونه إلا أوثانا، وهي الأصنام سميت إناثا لما صوروها، بصور الإناث، وحلوها، وقلدوها، وزينوها بزيهن، ثم عبدوها على ما كان في الأصل، فسميت بذلك...
وقوله تعالى: {وإن يدعون إلا الشيطان مريدا} أخبر الله عز وجل، وإن كانوا يفرون من الشيطان، ولا يألفونه، فإنهم بعبادتهم الأصنام والأوثان يعبدون الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام، فكأنهم عبدوه. ألا ترى أن إبراهيم (صلوات الله عليه وسلامه) قال {يا أبت لا تعبد الشيطان} (مريم: 44) جعل عبادة الصنم عبادة الشيطان حين قال له: {لا تعبد الشيطان} فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان، وبالله العصمة...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
المَريد... هو الشديد العاتي الخارج من الطاعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلال: {إن} أي ما {يدعون} وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة. ولما كان كل شيء دونه سبحانه وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقراً لما عبدوه: {من دونه} أي وهو الرحمن. ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل: إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم: أنثى بني فلان؛ قال: {إلا إناثاً} أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً،... {وإن يدعون} أي يعبدون في الحقيقة {إلا شيطاناً} أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم {مريداً} أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان، مجرداً من كل خير، محترقاً بأفعال الشر، بعيداً من كل أمن، من: شاط وشطن؛ ومرد -بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى بعض أحوال المشركين فقال: {إن يدعون من دونه إلا إناثا} أي إنهم لا يدعون من دون الله لقضاء حاجتهم وتفريج كروبهم، إلا إناثا كاللات والعزى ومناة، وكان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان، أو المراد أسماء معبودات وآلهة ليس لها من حقيقة معنى الألوهية شيء كما قال في سورة أخرى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [الأعراف:71] أي أسماء مؤنثة في الغالب، أو المراد معبودات ضعيفة أو عاجزة كالإناث لا تدافع عدوا ولا تدرك ثأرا. كما وصفها في موضع آخر بأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، وكانت العرب تصف الضعيف بالأنوثة لما ذكرنا من ضعف المرأة بل ضعف إناث الحيوان عن الذكور حتى قالوا للحديد اللين أنيث، ورجح الراغب وغيره أن وجه تسمية معبوداتهم إناثا هو كونها جمادات منفعلة لا فعل لها كالحيوان الذي هو فاعل منفعل كما وصفت في غير هذا الموضع بكونها لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيد تبطش بها ولا أرجل تمشي بها. كأنه يذكرهم بهذا النوع من الأدلة على بطلان ألوهيتها بما ارتكبوه من العار والخزي بعبادة ما كان هذا وصفه. وقد استبعد الأستاذ الإمام تفسير الإناث بالأصنام المذكورة كما استبعد تفسيره بالملائكة لأنهم سموهم بنات الله، وقال: إن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد بالإناث هنا الموتى لأن العرب تطلق عليهم لفظ الإناث لضعفهم أو يقال لعجزهم ومع ذلك كانوا يعظمون بعض الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمي هذه القرون وهذا هو الذي اختاره الأستاذ. وقال: إن المراد بالدعاء ذلك التوجه المخصوص بطلب المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها.
{وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} أي وما يدعون إلا شيطانا مريدا، قالوا الشيطان يطلق على العارم الخبيث من الجن والإنس. والمريد والمارد المتعري من الخيرات من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق ومنه رملة مرداء لم تنبت شيئا. أو هو من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بغير تكلف ومنه قوله تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} [التوبة:101] أي شيطانا مرد على الإغواء والإضلال. أو تمرد واستكبر عن الطاعة
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يصف بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها. وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات -هن الملائكة- وحول عبادتهم للشيطان -وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام- كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة! وفي تغييرهم خلق الله. والشرك بالله. وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها:
(إن يدعون من دونه إلا إناثا، وإن يدعون إلا شيطانا مريدا، لعنه الله وقال: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام؛ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله.. ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا).
لقد كان العرب -في جاهليتهم- يزعمون أن الملائكة بنات الله. ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث:"اللات. والعزى. ومناة" وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام -بوصفها تماثيل لبنات الله- يتقربون بها إلى الله زلفى.. كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر.. ثم ينسون أصل الأسطورة، ويعبدون الأصنام ذاتها، بل يعبدون جنس الحجر، كما بينا ذلك في الجزء الرابع.
كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصا.. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن..
على أن النص هنا أوسع مدلولا، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان، ويستمدون منه: هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم؛ الذي لعنه الله، بسبب معصيته وعدائه للبشر. والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته، أن يأخذ من الله -سبحانه- إذنا بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله:
(إن يدعون من دونه إلا إناثا. وإن يدعون إلا شيطانا مريدا. لعنه الله. وقال: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان قوله: {إن يدعون} بياناً لقوله: {فقد ضلّ ضلالاً بعيداً} [النساء: 116]، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيرَه ثم أن يَدّعي أنّ شركاءه إناث، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع. وأعجب من ذلك أن يَكون هذا صادراً من العرب، وقد علم الناس حال المرأة بينهم، وقد حَرَمُوها من حقوق كثيرة واستضعفوها. فالحصر في قوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً} قصر ادّعائي لأنّه أعجبُ أحوال إشراكهم، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي: اللاّت، والعُزّى، ومَنَاة، فهذا كقولك لا عالم إلاّ زيد. وكانت العزّى لقريش، وكانت مناة للأوس والخزرج، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين: مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام: ومنافقو المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام.
ومعنى {وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان، والمراد جنس الشيطان، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام. والمَريد: العاصي والخارج عن المَلِك.