ثم بين - سبحانه - أن المسيح عيسى - عليه السلام - عبد من عباد الله - تعالى - ، وأنه لن يستنكف أبدا عن عبادة الله والإِذعان لأمره فقال : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } .
وأصل { يَسْتَنكِفَ } - يقول القرطبى : نكف ، فالياء والسين والتاء زوائد . يقال : نكفت من الشئ واستنكف منه وأنكفته أى : نزهته عما يستنكف منه . ومنه الحديث : " سُئل - رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { سُبْحَانَ الله } فقال : " إنكاف الله من كل سوء " " .
يعنى : تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد .
قال الزجاج : استكف أى : أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك ومنه الحديث " ما ينكف العرق عن جبينه " أى : ما ينقطع .
وقيل : هو من النِّكْف وهو العيب . يقال : ما عليه فى هذا الأمر من نِكْفٍ ولا وَكَف . أى عيب . أى لن يمتنع المسيح ولن يتنزه عن العبودية لله - تعالى - ولن ينقطع عنها . ولن يعاب أن يكون عبداً لله تعالى .
والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير ما سبقها من تنزيه لله - تعالى - عن أن يكون له ولد ، وإثبات لوحدانيته - عز وجل - وإفراده بالعبادة .
وقد روى المفسرون فى سبب نزولها " أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا يا محمد ؟ قال : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى ، قال صلى الله عليه وسلم : وأى شئ قلت ؟ قالوا تقول : إنه عبد الله ورسوله . قال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله " .
والمعنى : لن يأنف المسيح ولن يمتنع أن يكون عبداً لله ، وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا ولن يمتنعوا عن ذلك ، فإن خضوع المخلوقات لخالقها شرف ليس بعده شرف . والله - تعالى - ما خلق الخلق إلا لعبادته وطاعته .
قال - تعالى - { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } وصدر - سبحانه - الجملة بحرف ( لن ) المفيدة للنفى المؤكد ، لبيان أن عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عن عبادة الله والخضع له أمر مستمر وثابت ثبوتا لا شك فيه ، لأنه - سبحانه - هو الذى خلق الخلق ورزقهم . ومن حقه عليهم أن يعبدوه ، ويذعنوا لأمره ، بل ويشعروا باللذة والأنس والشرف لعبادتهم له - سبحانه - كما قال الشاعر الحكيم :
ومما زادنى عجباً وتيها . . . وكدت بإخمصى أطأ الثريا
دخولى تحت قولك يا عبادى . . . وجعلك خير خلقك لى نبياً
هذا ، وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وممن فهم هذا الفهم الإِمام الزمخشرى فقد قال :
وقوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } أى : لن يأنف ولن يهذب بنفسه عزة ، ( من نكفت الدمع إذا نحيته عن خدك بإصبعك ) { وَلاَ الملائكة المقربون } أى : ولا من هو أعلى منه قدرا ، وأعظم منه خطرا وهم الملائكة الذين حول العشر كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن فى طبقتهم .
ثم قال : فإن قلت : من أين دل قوله { وَلاَ الملائكة المقربون } على أن المعنى : ولا من فوقه ؟ قلت : من حيث إن علم المعانى لا يقتضى غير ذلك . وذلك أن الكلام إنما سبق لرد مذهب النصارى وغلوهم فى رفع عيسى عن منزلة العبودية . فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أعلى منه درجة . فكأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاها منزلة .
وهذا الفهم الذى اتجه إليه الزمخشرى من أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، لم يوافقه عليه أكثر العلماء ، فقد قال الإِمام ابن كثير :
وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال : { وَلاَ الملائكة المقربون } . وليس له فى ذلك دلالة ، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ، لأن الاستنكاف هو الامتناع .
وليس له فى ذلك دلالة ، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ، لأن الاستنكاف هو الامتناع . والملائكة أقدر على ذلك من المسيح ، فلهذا قال { وَلاَ الملائكة المقربون } ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل . وقيل إنما ذكروا لأن بعض الناس اتخذهم آلهة مع الله كما اتخذ الضالون المسيح إلها أو ابنا لله . فأخبر - سبحانه - أنهم عبيد من عباده ، وخلق من خلقه .
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل الآية الكريمة بعيدة عن موطن النزاع فقال : وعندى أن الترقى قائم ، ولكن فى المعنى الذى سيق له الكلام . وذلك أن النصارى غلوا غلواً كبيرا فى المسيح ، لأنه لود من غير أب ، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة ، ولأنه روحانى المعانى ، فيبين الله - تعالى - أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله ، ولا يستنكف من هو أعلى منه فى هذه المعانى أن يكون عبداً لله ، وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم . وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات ، ومنهم من كان الروح الذى نفخ فى مريم ، وهم أرواح طاهرة مطهرة . فكان الترقى فى هذه المعانى ، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره . وبذلك تكون الآية بعيدة عن الأفضلية المطلقة ، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل فى المنزلة عند الله . وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف ، والترقى دائما يكون فى المعانى التى سيق لها الكلام دون غيرها . وليس المتأخر أعلى فى ذاته من المتقدم وأفضل ، ولكنه أعلى فى الفعل الذى كان فيه كقول القائل : لا تضرب حراب ولا عبدا . فالتدرج هنا فى النهى عن الضرب ، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فأولى أن يكون ضرب الحر غير جائز .
وذكر وصف المقربين ، لأنهم إذا كانوا لا يستنكفون فأولى بذلك غيرهم .
ثم هدد - سبحانه - كل من يمتنع عن عبادته والخضوع له فقال : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } .
أى : ومن يأنف من عباده الله ويمتنع عنها ، ويأبى الخضوع لطاعة الله ويستكبر عن كل ذلك ، فسيجد يوم القيامة ما يستحقه من عقاب بسبب استنكافه واستكباره ، فإن مرد العباد جميعا إليه - سبحانه - وسيجازى المحسن بإحسانه ، والمسئ بإساءته .
فالمضير فى قوله { فَسَيَحْشُرُهُمْ } يعود إلى المستنكفين والمستكرين وإلى غيرهم من المؤمنين المطيعين بدليل أن الحشر عام للمؤمنين والكافرين ، وبدليل التفصيل المفرع على هذا الحشر فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ }
{ لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ : لن يأنف ولن يستكبر المسيح أنْ يَكُونَ عَبْدا لله يعني : من أن يكون عبدا لله . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يكُون عبدا لِلّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقّربُونَ : لن يحتشم المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة .
وأما قوله : وَلا المَلائِكَةُ المُقَرّبُونَ فإنه يعني : ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بالعبودية ، والإذعان له بذلك رُسُله المقرّبون الذين قرّبهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه .
ورُوي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك ما :
حدثني به جعفر بن محمد البزوري ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح ، قال : قلت للضحاك : ما المقرّبون ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَسْتَنْكفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيهِ جَمِيعا .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : ومن يتعظم عن عبادة ربه ، ويأنف من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم ، ويستكبر عن ذلك ، فَسَيْحُشُرُهُمْ إليه جَمِيعا يقول : فسيبعثهم يوم القيامة جميعا ، فيجمعهم لموعدهم عنده .
{ لن يستنكف المسيح } لن يأنف ، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك كيلا يرى أثره عليك . { أن يكون عبدا لله } من أن يكون عبدا له فإن عبوديته شرف يتباهى به ، وإنما لمذلة والاستنكاف في عبودية غيره . روي ( أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال عليه السلام : وأي شيء أقول . قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله ، قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله ، قالوا : بلى ) فنزلت { ولا الملائكة المقربون } عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله ، واحتج به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه ، وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة فلا يتجه ذلك وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك : أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس ، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين هم حول العرش ، أو من على منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } ومن يرتفع عنها ، والاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وإنما يستعمل من حيث الاستحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق . { فسيحشرهم إليه جميعا } فيجازيهم .