ثم بين - سبحانه - عاقبة كفرهم ، ونطقهم بالباطل ، فقال - تعالى - : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة . . . } .
واللام فى قوله - { ليحملوا } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وذلك لأنهم لما وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، كانت عاقبتهم تلك العاقبة السيئة .
والأوزار جمع وزر - بكسر الواو وسكون الزاى - بمعنى الشئ الثقيل .
المراد بها الذنوب والآثام التى يقل حملها على صاحبها يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } والمعنى : قالوا ذلك فى القرآن الكريم ، لتكون عاقبتهم أن يحملوا أوزارهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { ليحملوا } متعلق - بقالوا - كما هو الظاهر . . واللام للعاقبة ، لأن الحمل مترتب على قولهم وليس باعثا ولا غرضا لهم .
وعن ابن عطية : أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا ، أى : قدر صدور ذلك منهم ليحملوا . . .
وقال - سبحانه - { كاملة } لتأكيد أنه لا يرفع عنهم شئ من ذنوبهم ، بل سيعاقبون عليها جميعها دون أن ينقص منها شئ .
قال الفخر الرازى : وهذا يدل على أن الله - تعالى - قد يسقط بعض العقاب على المؤمنين ، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا فى حق الكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى . . .
وقال بعض العلماء : " ويصور التعبير هذه الذنوب بكونها أحمالا ذات ثقل - وساءت أحمالا وأثقالا - ، فهى توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور ، وهى تثقل القلوب ، كما تثقل الأحمال العواتق ، وهى تتعب وتشقى كما تتعب الأثقال حاملها ، بل هى أدهى وأنكى " .
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله فى صورة أقبح ما خلق الله وجها ، وأنتنه ريحا ، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شئ زاده فزعا ، وكلما تخوف من شئ زاده خوفا . فيقول له بئس الصاحب أنت ومن أنت ؟ فيقول له وما تعرفنى ؟ فيقول : لا . فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك ترانى قبيحا ، وكان منتنا فلذلك ترانى منتنا . طأطئ إلى أركبك ، فطالما ركبتنى فى الدنيا ، فيركبه ، وهو قوله - تعالى - { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة . . } .
وقوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } بيان لأثقال أخرى يحملونها فوق أثقالهم .
أى : أن أولئك المستكبرين ، قالوا فى القرآن إنه أساطير الأولين ، فكانت عاقبة قولهم الباطل أن حملوا آثامهم الخاصة ، وأن حملوا فوقها جانبا من آثام من كانوا سببا فى ضلالهم .
قال ابن كثير : أى يصير عليهم خطيئة ضلالهم فى أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم ، واقتداء أولئك بهم ، كما جاء فى الحديث : " من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
كما قال - تعالى - : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } فهذه الآية وأمثالها ، لا تعارض بنيها وبين قوله - تعالى - { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } لأن هؤلاء المستكبرين لم يكتفوا بضلالهم فى أنفسهم ، بل تسببوا فى إضلال غيرهم ، فعوقبوا على هذا التسبب السيئ ، الذى هو فعل من أفعالهم القبيحة .
وقوله { بغير علم } فى موضع الحال من الضمير المنصوب فى قوله { يضلونهم } .
أى : يضلون ناسا لا علم عندهم ، فهم كالأنعام بل هم أضل ، وفى ذلك ما فيه من مدح أهل العلم والتفكير ، لأن الآية الكريمة قد بينت أن أئمة الكفر ، يستطيعون إضلال من لا علم عنده ، أما أصحاب العقول السليمة فلن يستطيعوا إضلالهم .
قالوا : واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ، وأن يميز بين الحق والباطل ، ولا يعذر بسبب جهله .
وقيل : إن قوله { بغير علم } فى موضع الحال من الضمير المرفوع فى قوله { يضلونهم } .
أى : هم يضلون غيرهم حالة كونهم غير عالمين بما يترتب على ذلك من آثام وعقاب ، إذ لو علموا ذلك لما أقدموا على هذا الإِضلال لغيرهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } . قال الجمل : و { ساء } فعل ماض لإِنشاء الذم بمعنى بئس ، و " ما " تمييز بمعنى شيئا ، أو فاعل بساء و { يزرون } صفة لما والعائد محذوف ، أو " ما " اسم موصول ، وقوله { يزرون } صلة الموصول ، والعائد محذوف أى : يزرونه ، والمخصوص بالذم محذوف .
والتقدير : بئس شيئا يزرونه ويحملونه نتيجة كفرهم وكذبهم وإضلالهم لغيرهم ؛ وافتتحت الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح " ألا " للاهتمام بما تضمنه التحذير ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ويحترسوا عن الوقوع فى الباطل من القول .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون لمن سألهم ماذا أنزل ربكم : الذي أنزل ربنا فيما يزعم محمد عليه أساطير الأوّلين ، لتكون لهم ذنوبهم التي هم عليها مقيمون من تكذيبهم الله ، وكفرهم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذنوب الذين يصدّونهم عن الإيمان بالله يضلون يفتنون منهم بغير علم . وقوله : ألا ساءَ ما يَزِرُونَ يقول : ألا ساء الإثم الذي يأثمون والثقل الذي يتحملون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : ومن أوزار الذين يضلونهم حملهم ذنوب أنفسهم ، وسائر الحديث مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ قال : حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ أي ذنوبهم وذنوب الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساءَ ما يَزِرُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغيرِ عِلْمٍ يقول : يحملون ذنوبهم ، وذلك مثل قوله : وأثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ يقول : يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يُضِلُونهم بغير علم .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغيرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّمَا دَاعِ دَعا إلى ضَلالَةٍ فاتّبِعَ ، فإنّ عَلَيْهِ مِثْلَ أوْزَارِ مَنِ اتّبَعَهُ مِنْ غيرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْءٌ . وأيّمَا دَاعِ دَعا إلى هُدًى فاتّبِعَ ، فَلَهُ مِثْلُ أجُورِهِمْ مِنْ غيرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أجوْرِهِمْ شَيْءٌ » .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رجل ، قال : قال زيد بن أسلم : إنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها وأنتنه ريحا ، فيجلس إلى جنبه ، كلما أفزعه شيء زاده فزعا وكلما تخوّف شيئا زاده خوفا ، فيقول : بئس الصاحب أنت ومن أنت ؟ فيقول : وما تعرفني ؟ فيقول : لا ، فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا ، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا ، طأطىء إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه ، وهو قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.