ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن جلال الله - تعالى - ونوره وعظمته وعن بيوته التى أذن لها أن ترفع ، وعن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعته وتقديسه ، وعن الجزاء الحسن الذى أعده الله - سبحانه - لهؤلاء الأخيار ، فقال : { الله نُورُ . . . } .
قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " قوله - تعالى - : { الله نُورُ السماوات والأرض } . النور فى كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح . فيقال : كلام له نور . . . وفلان نور البلد .
فيجوز أن يقال : الله - تعالى - نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو - سبحانه - ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية : فقيل : المعنى : به وبقدرته أنارت أضواؤها . واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أى : به قوام أمرها . . . فهو - أى النور - فى الملك مجاز . وهو فى صفة الله - تعالى - حقيقة محضة .
قال ابن عرفة : أى منور السموات والأرض . وقال مجاهد : مدبر الأمور فى السموات والأرض .
قال ابن عباس : المعنى : الله هادى السموات والأرض . والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذى رجحه الإمام القرطبى فيكون معنى الجملة الكريمة : الله - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده - سبحانه - وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس فى دنياهم وآخرتهم .
وقال ابن كثير : " وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " .
وقال صلى الله عليه وسلم فى دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بى غضبك ، أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى - أى الرجوع عن الذنب - حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
وأضاف - سبحانه - نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه فى الكون كله .
ثم قرب - عز وجل - نوره إلى الأذهان فقال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . . } .
أى : صفة نوره العجيبة الشأن فى الإضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة - وهى الفتحة الصغيرة فى الجدار دون أن تكون نافذة فيه - هذه المشكاة فيها مصباح ، أى : سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار .
وقال - سبحانه - : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن وجود المصباح فى هذه المكشاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف مالو كان المصباح فى مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك .
{ المصباح فِي زُجَاجَةٍ } أى : فى قنديل من الزجاج الصافى النقى ، الذى يقيمه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا .
هذه { الزجاجة } فى ذاتها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أى شديد الإنارة ، نسبة إلى الدر فى صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أى : هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى : كثيرة المنافع ، زيتونة أى : هى شجرة الزيتون .
فحرف " من " لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى : من زيت شجرة ، مباركة : صفة لشجرة ، وزيتونة : بدل أو عطف بيان من شجرة .
ووصف - سبحانه - شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها ، وتعدد فوائدها التى من مظاهرها : الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها .
قال - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وقوله - سبحانه - : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } صفة أخرى لشجرة الزيتون .
أى : أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هيى مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها .
وقوله - تعالى - : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } صفة ثالثة لتلك الشجرة .
أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه يضىء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها .
قال بعض العلماء : وقد شُبِّه فى الآية نورُ الله ، بمعنى أدلته ، وآياته - سبحانه - من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق فى الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التى فيها زجاجة صافية ، وفى تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية فى الصفاء والرقة والإشراق ، حتى يكاد يضىء بنفسه من غير أن تمسه نار " .
وقوله - سبحانه - : { نُّورٌ على نُورٍ } أى : هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله - تعالى - لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى . فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها .
فقوله : { نُّورٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هو نور . وقوله { على نُورٍ } متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . أى : كائن على نور مثله .
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فقال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أى : يهدى الله - تعالى - لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .
أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس ، لكى يقرب لهم الأمور وييسرلهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول فى صورة المحسوس ، والله - تعالى - بكل شىء عليم ، سواء أكان هذا الشىء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا .
قال بعض العلماء ما ملخصه : هذه الآية الكريمة من الآيات التى صنفت فيها مصنفات ، منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالى . . . ومنها ما قاله الإمام ابن القيم عنها فى كتابه " الجيوش الإسلامية " .
فقد قال - رحمه اله - : سمى الله تعالى - نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ . قال - تعالى - { الله نُورُ السماوات والأرض } وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادى أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذى هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق اسم النور الذى هو أحد الأسماء الحسنى . . " .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىَ نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ هادي من في السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض .
حدثني سليمان بن عمر بن خَلْدة الرّقي ، قال : حدثنا وهب بن راشد ، عن فرقد ، عن أنس بن مالك ، قال : إن إلهي يقول : نوري هُداي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الله مدبّر السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس في قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يدبّر الأمر فيهما : نجومَهما وشمسَهما وقمرَهما .
وقال آخرون : بل عنى بذلك النور الضياء . وقالوا : معنى ذلك : ضياء السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع ابن أَنَس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : فبدأ بنور نفسه ، فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه عَقِيب قوله : وَلَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيّناتٍ ، وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه ، أولى وأشبه ، ما لم يأت ما يدلّ على انقضاء الخبر عنه من غيره . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولقد أنزلنا إليكم أَيّها الناس آيات مبينات الحق من الباطل وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ فهديناكم بها ، وبيّنا لكم معالم دينكم بها ، لأني هادي أهل السموات وأهل الأرض . وترك وصل الكلام باللام ، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء ، وفيه المعنى الذي ذكَرْتُ ، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره . ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالاَيات المبينات التي أنزلها إليهم ، فقال : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ يقول : مثل ما أنار من الحقّ بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء في قوله : مَثَلُ نُورِهِ علام هي عائدة ؟ ومن ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر المؤمن . وقالوا : معنى الكلام : مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : مَثَلُ نُورِهِ قال : ذكر نور المؤمن فقال : مثل نوره ، يقول : مثل نور المؤمن . قال : وكان أبيّ يقرؤها كذلك : «مَثَلُ المؤمن » . قال : هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ قال : بدأ بنور نفسه فذكره ، ثم قال : مَثَلُ نُورِهِ يقول : مثل نور مَنْ آمن به . قال : وكذلك كان يقرأ أُبيّ ، قال : هو عبد جعل الله القرآن والإيمان في صدره .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير : مَثَلُ نُورِهِ قال : مثل نور المؤمن .
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أبي سِنان ، عن ثابت ، عن الضحاك في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : نور المؤمن .
وقال آخرون : بل عُنِي بالنور : محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الهاء التي قوله : مَثَلَ نُورِهِ عائدة على اسم الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله عزّ وجلّ : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ . . . الآية ؟ فقال كعب : الله نور السموات والأرض ، مَثَل نوره مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، كمشكاة .
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : هَدْي اللّهِ وبيانه ، وهو القرآن . قالوا : والهاء من ذكر الله ، قالوا : ومعنى الكلام : الله هادي أهل السموات والأرض بآياته المبينات ، وهي وهي النور الذي استنار به السموات والأرض ، مَثَلُ هداه وآياته التي هَدَى بها خلقه ووعظهم بها في قلوب المؤمنين كمِشكاة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مَثَلُ نُورِهِ مثل هُدَاه في قلب المؤمن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَيّة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَثَلُ نُورِهِ : نورِ القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده ، هذا مثل القرآن كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عَيّاش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قول الله تبارك وتعالى : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ونوره الذي ذكر : القرآن ، ومَثَلُه الذي ضَرَب له .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مثل نور الله . وقالوا : يعني بالنور : الطاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني بي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مصْباحٌ وذلك أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلُص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مَثَلَ ذلك لنوره ، فقال : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمّى طاعته نورا ، ثم سماها أنوارا شَتّى .
وقوله : كمِشْكاةٍ اختلف أهل التأويل في معنى المِشكاة والمصباح وما المراد بذلك ، وبالزجاجة ، فقال بعضهم : المِشكاة كل كَوّة لا منفذَ لها ، وقالوا : هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شَمِر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : المشكاة وهي الكَوّة ، ضربها الله مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، المِشكاة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ قلبه فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ صدره الزجاجة كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ شبه صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدريّ ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب ، يَكادُ زَيْتُها يُضِىءُ يكاد محمد يبين للناس وإن لم يتكلم أنه نبيّ ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كمِشْكاةٍ يقول : موضع الفتيلة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ . . . إلى كمِشْكاةٍ قال : المِشكاة : كَوّة البيت .
وقال آخرون : عنى بالمشكاة : صدر المؤمن ، وبالمصباح : القرآن والإيمان ، وبالزجاجة : قلبه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قال : مَثَل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة ، قال : المشكاة : صدره . فِيها مِصْباحٌ قال : والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره . المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قال : والزجاجة : قلبه . الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ توقَدُ ، قال : فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ ، يقول : مُضِيء . تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ والشجرة المباركة ، أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته ، لا شريك له . لا شَرْقَيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : فمثله مَثَل شجرة التفّ بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غَربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغَيرِ وقد ابتُلِي بها فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن أُعطِى شكر ، وإن ابتُلِي صبر ، وإن حَكَم عدل ، وإن قال صدق فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات . قال : نُورٌ عَلى نُورٍ فهو يتقلّب في خمسة من النور : فكلامه نور ، وعمله نور ، ومَدْخله نور ، ومَخْرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني يحيى بن اليمان ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : المشكاة : صدر المؤمن . فيها مصباح ، قال : القرآن .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، نحو حديث عبد الأعلى ، عن عبيد الله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة : قالَ هَذَا رَبّي حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له ربّا ، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هُدًى على هدى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مَثَل ذلك لنوره ، فقال : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ والمِشكاة : كَوّة البيت فيها مصباح ، المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرْيّ والمصباج : السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا وسماها أنواعا شتى .
قوله : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتَونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هي شجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق ولا ظلّ غرب ، ضاحية ، ذلك أصفى للزيت . يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ . قال معمر ، وقال الحسن : ليست من شجر الدنيا ، ليست شرقية ولا غربية .
وقال آخرون : هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده ، والمشكاة مثل لجوفه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد وابن عباس جميعا : المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه ، المصباح مثل الفؤاد ، والكوّة مثل الجوف .
قال ابن جُرَيج : كمِشْكاةٍ : كوّة غير نافذة . قال ابن جُرَيج ، وقال ابن عباس : قوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يعني : إيمان المؤمن وعمله .
وقال آخرون : بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهه كمِشْكاةٍ قال : ككوّة فِيها مِصْباحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده ، فهذا مثل القرآن كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ فِي زُجاجَة فقرأ حتى بلغ : مُبارَكَةٍ فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ويعلمونه ويأخذون به ، وهو كما هو لا ينقص ، فهذا مثل ضربه الله لنوره . وفي قوله : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قال : الضوء : إشراق ذلك الزيت ، والمشكاة : التي فيها الفتيلة التي في المصباح ، والقناديل تلك المصابيح .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن عياض في قوله : كمِشْكاةٍ قال : الكوّة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن عطية ، في قوله : كمِشْكاةٍ قال : قال ابن عمر : المشكاة الكَوّة .
وقال آخرون : المِشكاة القنديل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كمِشْكاةٍ قال : القنديل ، ثم العمود الذي فيه القنديل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمِشْكاةٍ : الصّفْر الذي في جوف القنديل .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله عن داود ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : المِشكاة : القنديل .
وقال آخرون : المشكاة : الحديد الذي يعلق به القنديل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن المفضل ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، قال : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مَثَلُ نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد ، الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدّقوا بما فيه ، في قلوب المؤمنين ، مثل مِشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وذلك هو نظير الكَوّة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها . وإنما جعل ذلك العمود مِشكاة ، لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى ، فهو كالكَوّة التي في الحائط التي لا تنفذ . ثم قال : فِيها مِصْباحٌ وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والاَيات المبينات . ثم قال : المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يعني أن السراج الذي في المِشكاة في القنديل ، وهو الزجاجة ، وذلك مثل للقرآن ، يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره . ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشكّ فيه واستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه المبينات ومواعظه فيها ، بالكوكب الدرّيّ ، فقال : الزّجَاجَةُ وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دُرّيّ فقرأته عامة قرّاء الحجاز : دُرّيّ بضم الدال ، وترك الهمز . وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة : «دِرّيءٌ » بكسر الدال وهمزة . وقرأ بعض قرّاء الكوفة : «دُرّيء » بضم الدال وهمزة . وكأن الذين ضموا داله وتركوا الهمزة ، وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم ، من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدرّ ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفتها . ووجه الذين قرءوا ذلك بكسر داله وهمزه ، إلى أنه فِعّيل من دُرّىءَ الكوكبُ : أي دُفِع ورجم به الشيطان ، من قوله : وَيَدْرأُعَنْها العَذابَ : أي يدفع ، والعرب تسمى الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الداراريّ بغير همز . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : هي الدراريء بالهمز ، من يَدْرأن . وأما الذين قرءوه بضمّ داله وهمزه ، فإن كانوا أرادوا به درّوء مثل سُبّوح وقدوس من درأت ، ثم استثقلوا كثرة الضمات فيه ، فصرفوا بعضها إلى الكسرة ، فقالوا : دِرّىء ، كما قيل : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكَبرِ عِتِيّا وهو فُعُول ، من عتوت عُتُوّا ، ثم حوّلت بعض ضماتها إلى الكسر ، فقيل : عِتيّا . فهو مذهب ، وإلا فلا أعرف لصحة قراءتهم ذلك كذلك وجها ، وذلك أنه لا يُعرف في كلام العرب فِعّيل . وقد كان بعض أهل العربية يقول : هو لحن .
والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ : دُرّىّ بضمّ داله وترك همزه ، على النسبة إلى الدرّ ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا . وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل ، ففي ذلك مُكْتفًى عن الاستشهاد على صحتها بغيره . فتأويل الكلام : الزجاجة : وهي صدر المؤمن ، كأنها : يعني كأن الزجاجة ، وذلك مثل لصدر المؤمن ، كَوْكَب : يقول : في صفائها وضيائها وحسنها . وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي ، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : «تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » فقرأ ذلك بعض المكّيين والمدنيّين وبعض البصرين : «تَوَقّدَ مِنْ شَجَرَةٍ » بالتاء ، وفتحها ، وتشديد القاف ، وفتح الدال . وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى تَوَقّدَ المصباحُ من شجرة مباركة . وقرأه بعض عامة قرّاء المدنيين : يُوقَدُ بالياء ، وتخفيف القاف ، ورفع الدال بمعنى : يُوقِدُ المصباح مُوْقِدُه من شجرة ، ثم لم يُسَمّ فاعله . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «تُوقَدُ » بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال ، بمعنى : يُوقِدُ الزجاجةُ مُوقِدُها من شجرة مباركة لما لم يسمّ فاعله ، فقيل تُوقَد . وقرأه بعض أهل مكة : «تَوَقّدُ » بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وضم الدال بمعنى : تَتَوَقّد الزجاجة من شجرة ، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفاء بالباقية من الذاهبة .
وهذه القراءات متقاربات المعاني وإن اختلفت الألفاظ بها وذلك أن الزجاجة إذا وُصِفت بالتوقد أو بأنها تَوَقّد ، فملعوم معنى ذلك ، فإن المراد به تَوَقّدَ فيها المصباح أو يُوقَد فيها المصباح ، ولكن وجّهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك أقرب في الكلام منها وفهم السامعين معناه والمراد منه . فإذا كان ذلك كذلك فبأيّ القراءات قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءات إليّ أن أقرأ بها في ذلك : «تَوَقّدَ » بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وفتح الدال ، بمعنى : وصف المصباح بالتوقد لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته ، دون الزجاجة . فمعنى الكلام إذن : كمشكاة فيها مصباح ، المصباح من دهن شجرة مباركة ، زيتونة ، لا شرقية ولا غربية .
وقد ذكرنا بعض ما رُوي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى ، ونذكر باقي ما حضرنا مما لم نذكره قبل . فقال بعضهم : إنما قيل لهذه الشجرة لا شرقية ولا غربية : أي ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق ، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب . ولا هي غربية وحدها ، فتصيبها الشمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب ، ولا تصيبها بالغدَاة ولكنها شرقية غربية ، تطلع عليها الشمس بالغداة وتغرب عليها ، فيصببها حرّ الشمس بالغداة والعشيّ . قالوا : وإذا كانت كذلك ، كان أجود لزيتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هَنّاد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سمِاك ، عن عكرمة ، في قوله : زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : لا يسترها من الشمس جبل ولا واد ، إذا طلعت وإذا غربت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حِرميّ بن عُمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : الشجرة تكون في مكان لا يسترها من الشمس شيء ، تطلع عليها وتغرب عليها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قالا : هي التي بشِقّ الجبل ، التي يصيبها شروق الشمس وغروبها ، إذا طلعت أصابتها وإذا غربت أصابتها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليست شرقية ولا غربية . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثني محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هي شجرة وَسْط الشجر ، ليست من الشرق ولا من الغرب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ متيامنة الشأم ، لا شرقيّ ولا غربيّ .
وقال آخرون : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : والله لو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنما هو مثل ضربه الله لنوره .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عثمان ، يعني بان الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : لو كانت في الأرض هذه الزيتونة كان شرقية أو غربية ، ولكن والله ما هي في الأرض ، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هذا مَثَل ضربه الله ، ولو كانت هذه الشجرة في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية .
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك قول من قال : إنها شرقية غربية وقال : ومعنى الكلام : ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشيّ دون الغداة ، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب ، فهي شرقية غربية .
وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام ، لأن الله إنما وصف الزيت الذي يُوقَد على هذا المصباح بالصفاء والجودة ، فإذا كان شجره شرقيّا غربيّا كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ .
وقوله : يَكادُ زيْتُها يُضِيءُ يقول تعالى ذكره : يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه . وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نار يقول : فكيف إذا مسته النار .
وإنما أُريد بقوله : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَة مُبارَكَةٍ أن هذا القرآن من عند الله وأنه كلامه ، فجعل مَثَله ومَثَل كونه من عنده مثلَ المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية . وعُنِي بقوله : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ : أن حُجَج الله تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر أو أعرض عنها وَلَها . وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يقول : ولو لم يَزِدها الله بيانا ووضوحا بإنزاله هذا القرآن إليهم ، منبها لهم على توحيده ، فكيف إذا نبههم به وذكّرهم بآياته فزادهم به حجة إلى حُجَجه عليهم قبل ذلك ؟ فذلك بيان من الله ونور على البيان ، والنور الذي كان قد وضعه لهم ونصبه قبل نزوله .
وقوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يعني النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النار . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : نُورٌ عَلى نُورٍ قال : النار على الزيت .
قال أبو جعفر : وهو عندي كما ذكرت مَثَلُ القرآن . ويعني بقوله : نُورٌ عَلى نُورٍ هذا القرآن نور من عند الله ، أنزله إلى خلقه يستضيئون به . على نور على الحُجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه ، مما يدلّ على حقيقة وحدانيته . فذلك بيان من الله ، ونور على البيان ، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله . وذكر عن زيد بن أسلم في ذلك ، ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يضيء بعضه بعضا ، يعني القرآن .
وقوله : يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ : يقول تعالى ذكره : يُوَفّق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده . وقوله : يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ : يقول تعالى ذكره : يُوَفّق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده . وقوله : وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ للنّاسِ يقول : ويُمثّل الله الأمثال والأشباه للناس كما مثّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة وسائر ما في هذه الآية من الأمثال . وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : والله بضرب الأمثال وغيرها من الأشياء كلها ، ذو علم .