{ أن اعمل سابغات } دروعا كوامل { وقدر في السرد } لا تجعل مسمار الدرع دقيقا فيفلق ولا غليظا فيفصم الحلق اجعله على قدر الحاجة والسرد نسج الدروع { واعملوا } يعني داود وآله { صالحا } عملا صالحا من طاعة الله تعالى { ولسليمان الريح } وسخرنا له الريح { غدوها شهر } مسيرها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر ومن انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر وهو قوله { ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر } أذبنا له عين النحاس فسالت له كما يسيل الماء { ومن الجن } أي سخرنا له من الجن { من يعمل بين يديه بإذن ربه } بأمر ربه { ومن يزغ } يمل ويعدل { منهم عن أمرنا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته
قوله تعالى : " أن اعمل سابغات " أي دروعا سابغات ، أي كوامل تامات واسعات . يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه . " وقدر في السرد " قال قتادة : كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا ؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة . أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه . أي لا تقصد الحصانة فتثقل ، ولا الخفة فتزيل المنعة . وقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة ، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع ، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها . وقال ابن عباس : التقدير الذي أمر به هو في المسار ، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق{[12970]} ، ولا غليظا فيفصم الحلق . روي " يقصم " بالقاف ، والفاء أيضا رواية . " في السرد " السرد نسج حلق الدروع ، ومنه قيل لصانع حلق الدروع : السراد والزراد ، تبدل من السين الزاي ، كما قيل : سراط وزراط . والسرد : الخرز ، يقال : سرد يسرد إذا خرز . والمسرد : الإشفى ، ويقال سراد . قال الشماخ :
فظلت{[12971]} تباعا خيلنا في بيوتكم *** كما تابعت سَرْدَ العنان الخوارِزُ
والسِّراد : السير الذي يخرز به . قال لبيد :
يشك صِفَاحها بالرَّوْقِ شَزْرًا *** كما خرج السِّرَادُ من النقال{[12972]}
ويقال : قد سرد الحديث والصوم ، فالسرد فيهما أن يجيء{[12973]} بهما ولاء في نسق واحد ، ومنه سرد الكلام . وفي حديث عائشة : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم ، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه . قال سيبويه : ومنه رجل سردي أي جريء ، قال : لأنه يمضي قدما{[12974]} . وأصل ذلك في سرد الدرع ، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف . قال لبيد :
صنع الحديد مضاعفا أسراده *** لينال طول العيش غير مرُومِ
وعليهما مسرودتَانِ قضاهما *** داودُ أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ{[12975]}
قوله تعالى : " واعملوا صالحا " أي عملا صالحا . وهذا خطاب لداود وأهله ، كما قال : " اعملوا آل داود شكرا " [ سبأ : 13 ] . " إني بما تعملون بصير " وقال العلماء : وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور .
ثم ذكر علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله{[56465]} كان لله فقال : { أن أعمل سابغات } أي دروعاً طوالاً واسعة .
ولما كان السرد الخرز{[56466]} في الأديم وإدخال الخيط في موضع الخرز شبه إدخال الحلقة في الأخرى بلحمة لا طرف لها بمواضع الخرز{[56467]} فقال : { وقدر في السرد } أي النسج بأن يكون كل حلقة مساوية{[56468]} لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم{[56469]} ولتكن في تحتها بحيث لا يقلعها سيف ولا تثقل على الدارع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر أنه لم يكن في حلقها مسامير{[56470]} لعدم الحاجة بإلانة{[56471]} الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ، ولا كان للإلانة فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير{[56472]} مسامير ، قال الزجاج : السرد في اللغة : تقدير الشيء إلى الشيء ليتأتى متسقاً بعضه في أثر بعض متتابعاً ، ومنه قولهم : سرد فلان الحديث . وهذا كما ألان الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية وفي رواية : الكذانة وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم فضربها صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً{[56473]} وتلك الصخرة التي أخبره{[56474]} سلمان{[56475]} رضي الله عنه أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم{[56476]} وعجزوا عنها فضربها النبي{[56477]} صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات كسر{[56478]} في كل ضربة ثلاثاً منها وبرقت{[56479]} مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة ، وأضاءت للصحابة رضي الله عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار كأنها مصباح في جوف بيت مظلم ، فسألوه{[56480]} عن ذلك فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها{[56481]} من مكانه ذلك ، وأخبره جبرائيل عيله السلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر{[56482]} أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له{[56483]} الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر{[56484]} بفتحها عليهم ، فصدقه الله تعالى في جميع ما قال ، وأعظم من ذلك تصليب الخشب له حتى يصير سيفاً قوي المتن جيد الحديدة ، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش رضي الله عنه انقطع يوم أحد ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فعاد في يده سيفاً قائمة منه فقاتل به ، فكان يسمى العون ، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار ذكره الكلاعي في السيرة عن الزبير بن أبي بكر والبيهقي ، وقاتل عكاشة{[56485]} ابن محصن يوم بدر فانقطع سيفه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلاً من حطب ، فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفاً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العون ، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده حتى قتل في الردة وهو عنده ، وعن الواقدي أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريش{[56486]} يوم بدر فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيباً كان في يده من عراجين ابن طاب فقال : اضرب به فإذا هو{[56487]} سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد ، وإلحامه للحديد ليس بأعجب من إلحام النبي صلى الله عليه وسلم ليد معوذ{[56488]} بن عفراء لما قطعها أو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها كما نقله البيهقي وغيره .
ولما أتم{[56489]} سبحانه ما يختص به من الكرامات ، عطف عليها ما جمع فيه الضمير لأنه يعم غيره فقال : { واعملوا } أي أنت ومن أطاعك { صالحاً } أي بما تفضلنا به عليكم من العلم والتوفيق للطاعة ، ثم علل هذا الأمر ترغيباً وترهيباً بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم للقدرة على{[56490]} البعث إنكار لغيرها من الصفات وإلى أن{[56491]} المتهاون{[56492]} في العمل في عداد من ينكر أنه بعين الله : { إني بما تعملون } أي كله { بصير * } أي مبصر وعالم بكل {[56493]}ظاهر له{[56494]} وباطن .